(مسألةُ وجودٍ هذا الصراع يا سادة، إمّا هم أو نحنُ، فلسطين هذه أرضنا المباركة المقدّسة، أرض أجدادنا، فلسطين السليبة، القدس الحبيبة، اليهود الغرباء، المزاعم الكاذبة، الحقوق المُغتصبة، طبعاً.. القنيطرة المُحرّرة.. حرب التحرير القادمة، وعائدون!).
قبل أن أُكمل هذه القصّة التي يمكن تصنيفها في زمرة القصّ الإدلبي العروبي الواقعي، قد تجوز محاولة وصف أجواء تلك الجلسة التي دار فيها حوار المعلّم السوري مع الخبيرين الهولنديين في إدلب تلك الأيّام...
سأتخيّل أنّهم اجتمعوا في الشتاء، في بيت من بيوت إدلب آنذاك، بيت في "شارع القوّتلي"، مبنيٌ من حجر "النحيت"، فيه هاتف أرقامه على قرص.. تمديدات الكهرباء خارجية.. الجدران سميكة.. السقف مرتفع.. الشرفة واسعة.. وغرفه كلّها تدخلها من الصالون، و في الصالون مدفأة مازوت قفص.. تلفزيون "سيرونيكس" أبيض وأسود.. طاولة سفرة وستّة كراسي.. ديوانتين.. ثلاث طربيزات.. سجّادة أنيقة و كبيرة.. جهاز هيدفون أيضاً.. لوحة لآية الكرسي على الحائط.. وعلى الحائط أيضاً صورة لمسجد قبّة الصخرة مرسومة بأقلام الرصاص بتوقيع رسّام فلسطيني اسمه "زياد برغوثي"، يبدو أنها كانت مُهداةً للفاضل صاحب البيت.. الذي كان يصبّ قهوته العربية لضيفيه القادمين من الغرب الأوروبّي، وهو لا يفتأ يشرح لهم عن قضيّة الصراع الأزلي.. بين العرب و الكيان الصهيوني، ولا ينسى دائماً أن يذكّرهم بأننا لسنا هواة قتل و تدمير.. وإنّما ندفع عن أنفسنا –طبعاً- القتل والتدمير!.
سامح الله الأستاذ مصطفى والكثيرين غيره من السوريين والعرب الذين كانوا يعتقدون أنَّ لا همّ إلا همّ إسرائيل.. ولا غمّ إلا غمّ الفرقة العربية ولا حلّ إلا بواسطة القوّة العسكرية التي سعت أنظمة الصمود العربية لامتلاكها وتعزيزها من أجل معركة التحرير، معركة التحرير التي استطاع أخيراً أن يشنّها الجيش العربي السوري انطلاقاً من سراقب.. الرستن.. الحولة.. بانياس.. الغوطة والزبداني باتّجاه القدس!
الجيش الذي أثبت بكل ثقة و اعتزاز أنه أبداً ليس هاوياً للقتل و التدمير بل محترف كبير غير مسبوق و لا موصوف.. لَهُما.
هامش:
كان عمري ثلاث سنوات لمّا جرت هذه الحكاية التي لم أكملها بعد، فاستغرقتُ سبعاً و ثلاثين سنةً أُخرى كي أتمكّن من إدراك رمزية تلك العبارة التاريخية العظيمة: "نحن لسنا هواة قتل و تدمير"!، لكن ثمة سؤال كان يلحّ دائماً.. هواة ماذا إذاً؟!. يعني.. إذا لم يكن الإنسان مُجرماً.. فماذا ينبغي له أن يكون؟!، طيب.. أنتَ لستَ مجرماً قاتلاً.. لكنّك بنّاءٌ مُحبٌّ و غيورٌ على مصلحتنا.. مصلحة الوطن، لماذا لم تصنع لنا رصيفاً واحداً غير معوجّ.. أو لافتة على أي طريق من طرقات "الوطن".. و ليست "مطعوجة"؟!.
(يا أخي.. هذا الصراع الكبير استهلك مواردنا، أضعف قوانا الاقتصادية، شتّت شمل تضامننا، المؤامرة.. الاستعمار القديم.. الصهيونية.. الرجعية.. المدّ الشعوبي.. المدّ الإسلامي.. المدّة المتبقّية للتحرير.. المدّة الكافية لصنع التوازن الاستراتيجي.. المَدّة بصينية الإمبريالية.. التي –مهما كلّف الأمر- لن نأكلها، سنقاوم الجوع، سنتصدّى للخيانات.. سنلعن أبو الذي لا يصدّقنا، نحن لسنا هواة قتل و تدمير.. لكن الصراع أنهك أوطاننا، هذا الفقر بسبب فلسطين، ذلك التقشّف من أجل القدس، تلك البطالة سببها المؤامرة على صمودنا، و مع هذا.. كلو يهون في سبيل فلسطين و القدس و القضيّة).
الإنسانية عدوّ الأنظمة العربية، بالأحرى العصابات العربية، هل تعرفون عصابةً تحترف القتل والتنكيل والسرقة و التدمير فيشغل بالها صراخ الضحايا حين يُذبحون، أو يشغلها عن جمعّ المال وأخذه بعد سرقة بنك.. بكاء طفل خائف أو امرأة مذعورة؟!، الإنسانية عدوّ أنظمة النظم و الظلم والظلام، فكيف بالتنمية إذاً؟!.
أكمل القصّة؟، كنتُ أحكي قصّة.. هل نسيتم؟، حسناً..
لمّا قال الأستاذ مصطفى لضيفيه الهولنديين في إدلب سنة 1977: إسرائيل احتلّت أرضنا، لكنّنا سنستعيدها، انبرى واحد منهما لا أعرف أيّهما بالتحديد –فالقصّة صارت قديمةً- و قال: لقد زرتُ منطقة "أبو الضهور" وشاهدت البؤس الذي هناك، الأولى بكم الاهتمام بما لديكم لتستعيدوا ما فقدتموه، و إلا.. فستخسرون كلّ شيء.
التعليقات (6)