فبعد قرن ونيف من الدعوة إلى النهضة والتقدم والتحديث, استغلت الدول العظمى أحداث 11 أيلول لتضغط على الأنظمة العربية بغية تشكيل جهاز مكافحة الإرهاب في كل دولة, وإلصاق تهمة الإرهاب بأغلب المثقفين والكتّاب والمعارضين, وهي بالمحصلة نقطة تقاطع وتلاقي مصالح بين الأنظمة وبقائها, ومصالح الدول العظمى في بقاء الشعوب العربية والغير عربية تحت مخلفات التخلف الفكري, وإبقاء المواطن في دائرة المواطن السلعي بدلاً من المواطن الفرد.
يقيناً الفكر العربي نفسه يتحمل مسؤولية كبيرة في ما حل بأوضاعهم فهو لم يقدم شيء على الرغم من دعاوى الإصلاح, لكنه كان دوماً يتوقف عند حد النزعة العروبية الضيقة من جهة, ومن جهة أخرى التضييق والضغط باتجاه المحافظة على الواقع المُعاش.
غياب المثقف الثوري!
إن عدم وجود مُنظر للثورات, وعدم ظهور مفكر ثوري يوجه ويقود الجماهير, أثبت أمكانية إصابة الفكر العربي بالعقم, وأجهضت جميع العقول القادرة على الإبداع من جهة, ومن جهة أخرى أثبتت الوقائع إن الفكر العربي قاصر على إدارة مهامه المجتمعية حتى وهو في بحبوحة الحرية. المثقف العربي لم يستطع الوقوف بحزم في وجه إلصاق تهمة الإرهاب بالعربي وغير العربي, وبالتوازي مع تثبيت تهمة الإرهاب على المناضل, والمثقف, والناشط, دأبت الأنظمة على خلق وبلورة صورة مفارقة عن ذاتها, حامية فئة من المثقفين والأكاديميين, والمأجورين, لحمل لوائها والدفاع عنها دوماً. وبالتوازي مع ذلك خلقت صورة مشوهة عن الأخر الشعبي وجسدتها بنعوت سالبة وهذه النعوت وكي تستتب كان لابد من إعادة هيكلة المجتمع وفق خطوات مدروسة. فبعد أن تمكنت من اختراق البنية الفكرية للمثقف العربي, كان لابد من تفعيل الخطوات التي رسمتها سابقاً حول الأقليات, وخاصة الأكراد وتطلعاتهم المشروعة وعددهم الضخم, فلجأت إلى زرع ثقافة الخوف والتشكيك من الكوردي في مخيلة العربي معتمدة في ذلك على بعض المثقفين العرب وبعض الأقطاب الكوردية.
الخوف من الشعب الكوردي!!
إذا كانت الشعوب العربية قد حُملت وزر أحداث 11 أيلول, بسبب أقدام فئة لارتكاب أحداث معينة, فإن الشعب الكوردي قد حُمل وبسهولة كبيرة ما جرى في بعض الدول العربية في الشرق الأوسط بدءاً من حرب الخليج الثانية وإلى يومنا هذا. فصورة الكوردي في مخيلة العربي بعد حرب الخليج الثانية, وبداية بلورة مشروع دولي لحماية الكورد في كوردستان العراق, عبر منطقة حظر طيران, وإقامة ملاذ أمن للكورد, وما تلاها من تداعيات, هو الحدث الأبرز الذي مازال الشعب الكوردي في الأجزاء والشتات يعيش تحت وطأته ويتلقى الضربات جراء ذلك. أن صورة الكوردي لا تزال مشوهة في مخيلة العربي, بل هي صورة أدُلجت على تحميل الكوردي مسؤولية ما جرى في العراق منذ تسعينيات القرن الماضي, إلى اليوم. خاصة وإن النظرة الضيقة والعقلية الإلغائية كانت تتوجس وتخشى دوماً من نتائج وأحداث الثورات الكوردية, لِما كانت تمتاز به من نتائج وفكر حي وبعد نظر للغالبية العظمى منها.
وهي تلك الوقائع التي لا تزال حتى اليوم تفتقدها معظم الأنظمة العربية. فجميع الثورات الكوردية كانت دوماً دفاعية, تدعوا للنهضة والتقدم والتغيير والمساواة والحقوق المشروعة والتآخي بين الشعوب, إضافة إلى ما يمتاز به إقليم كوردستان العراق من حرية التعبير والتعددية السياسية والثقافية والقوة العسكرية وإمكانية الخروج بتفاهمات و توافق خلال فترة زمنية قصيرة جداً إذا ما كان الأمر يتعلق بمصير كوردستان. في الوقت الذي نجد أن معظم أقطاب المعارضة العربية في اغلب الدول لا تزال تعاني من ضعف الأداء وانعدامية الثقة والاتفاق
إن الظروف الموضوعية لإنتاج الخوف العربي من الكورد لم تأتي من الفراغ إنما يعود إلى فتر تراكمات وتفاعلات بعيدة. خاصة وأن بروز الاستعدادات الجيوسياسية والاقتصادية والثقافية التي مكنت النظام الكوردي في كوردستان العراق من أن يُبلور بوساطتها صورة عن ذاته ويخلق بالتالي بشكل موازِ صورة تفوق عن الأخر العربي والتي تجسدت بردود فعل سلبية من قبل هذا الأخر. في الواقع إن الأنظمة العربية وكي تستبد لها السيطرة والهيمنة بالترهيب والتخويف والتخوين للكورد وحتى للعرب أنفسهم, رافقته استراتيجية مبنية على صناعة مفاهيم الخواصر الرخوة, والجيوب العميلة لإضفاء المشروعية على استبداده, إضافة إلى تمثيل الشعوب والمجتمعات الخارجة عن سيطرته ورغباته, على شكل زوائد عائمة من مخلفات العصور البائدة المتدنية.
غياب المشروع الكردي مع المحيط!
في الواقع لم تلجأ الأنظمة العربية دوماً إلى سياسة القمع والإنكار وحده, بل جاهدت في ابتكار أساليب أخرى منها عقد اتفاقيات تجارية أو عسكرية مع أطراف وكتل معارضة لها, وتكوين أنصار وزبائن مفتونين بمبادئها ومؤسساتها في المجتمعات المحلية.
وعلى الرغم من استمرار الأنظمة في رفض الاعتراف بالقيم والرموز الخاصة للثقافات المغايرة أو بفكرة تاريخ متعدد, بمعنى أن كل ثقافة أو حضارة لها خصوصيتها تستطيع من خلاله تحقيق ذاتها والسيطرة على مصيرها وبيئتها, لكن بروز كيانات لا تهتم بالخصوصية القومية والمجتمعية, هي دوماً ما تعيق بلورة مشروع كوردي مشترك مع المحيط العربي. وبالتوازي مع كل ذلك, يبرز وبوتيرة مطردة هوس وهاجس الوجود الكوردي في سوريا, بدأً من نعته بعدم انخراطه في الثورة السورية, ومروراً باتهامه بمحاولات انفصالية, ووصولاً إلى العمل على تهميشه في المحافل الدولية.
لماذا يخاف العربي من الانفصال الكوردي?
ثمة سؤال جوهري, يتجاهله المثقف والأكاديمي والعامل, وكل شرائح المجتمع السوري: هل حقيقة الكوردي انفصالي, أم يُدفش للانفصال؟
يترافق مع ذاك السؤال الجوهري, ترتيبات وتصرفات تخترق بنية التواصل الكوردي العربي, لتضع أهمية التواصل على الرف, في مقابل صعود حالة الانفصال إلى السطح. منذ فترة الانقلابات وإلى اليوم ولا يزال الكوردي مُتهم بالأنفصال. ففي 30 آذار 1949 حين قام حسني الزعيم بانقلابه وتوكيل مهمة تشكيل الوزارة إلى محسن البرازي ضمت جميع الأطياف والاثنيات والقوميات والأديان في سوريا, وبسبب انتماء كل من الزعيم والبرازي إلى الشعب الكوردي, بدأت تهمة الانفصال تلصق بهم, وأشيع عن رغبتهم في إنشاء دولة كوردية, وتم ربطهما بالاستعمار مباشرة, ونتيجة الاستمرار بذلك كبرت دائرة التهمة وشملت اغلب الكورد وحرموا من تبوء المناصب واتهموا على أنهم مجرد جيب عميل في خاصرة الدولة السورية, وتم الإطاحة به عبر انقلاب سامي الحناوي بعد أربع أشهر, وتم تصفية حسني الزعيم ومحسن البرازي ولم يكن هناك أي سبب للتصفية سوى النزعة العدائية تجاه الكورد, في الوقت الذي لم يتم إعدام أي رئيس أخر في فترة الانقلابات كُلها. ومنذ ذاك الحين وإلى اليوم ولا تزال عقلية التخوين والعمالة والانفصال ملاصقة للكوردي, حتى من صغار الكسبة, نتيجة الفكر المؤدلج.
أدلجة المخيلة الكردية!
وفي معمعة هذه التناقضات, يبرز سؤال جوهري آخر: على اعتبار أن الكوردي انفصالي مهمة حدث, ومهما قدم, ومهما صنع, وهو مجرد خائن وعميل دوماً, إلا يحق له التفكير عملياً بهذه التهمة, ومن المعلوم أن العمل على تغذية الرأي العام بفكرة ما ستوئتى بثمارها, ومن المنطقي جداً أن تكون مخيلة الكوردي هي الأخر قد أدلجت على الانفصال من كثرة استخدام المصطلح والتهمة في كل مكان, وكل دائرة, وكل محاكمة, وهنا يحق للكوردي وبكل جرأة طرح الفكرة التالية:
إما أن يكف الأخر عن النعت والانفصال, وترك تداعياتها, وتطبيقاتها, أو بات يحق للكورد أن يفكر بمصيره وفق طريقته, فالشعب الكوردي بخصوصيته, ولغته الخاصة, وفكره المجتمع الخاص, وقوميته الخاصة, تعرض لكل صنوف التمييز, عربياً, لذا بات يحق للكوردي أن يُفكر, كوردياً, وأن يعيش كوردياً.
على الدوام شعر الكورد بضرورة تقديم البراهين على انه ليس انفصاليا, واليوم مطلوب من الأخر أن يقدم الأدلة التي تثبت عدم مشاركتهم في ممارسات النظام, وتبرئتهم من شراكتهم في قمع واضطهاد الكورد, وعليهم بناء على ذلك تقديم ما يثبت انفصالهم عن ذهنية وعقلية النظام من جهة, ومن جهة أخرى تقديم ما يثبت رغبتهم في إعادة أعمار وبناء سورية جديدة بعيدة عن فكرة تأمر الكورد وعقلية الانفصال, والركون إلى قاعدة التشارك الحقيقي للمستقبل.
التعليقات (11)