ثقافة قبول الآخر: ضرورةٌ سورية

ثقافة قبول الآخر: ضرورةٌ سورية
إنَّ من اللافت للنظر ــــ عندما يجيل كلُّ واحدٍ منا فكره في حالنا منذ بداية الثورة وحتى الآن ــــ أن ترى تلك المشادات التي تحدث هنا وهناك بين الإخوة أو الأصدقاء من أبناء الوطن الذين كانوا بالأمس يتظاهرون ويُطارَدون ويُعتقَلون معاً , وإنَّ هذه المشادات سببها الرئيسي هو الاختلاف في وجهات النظر حول ما يحدث في البلاد , أو حول شكل الدولة في مرحلة ما بعد سقوط النظام , فكل واحد منهم يؤمن بإيديولوجيا تختلف عن الأخر , وكلٌّ منهم يحاول أن يثبت صحَّة ما يذهب إليه أو ما يؤمن به بشكلٍ مطلق , عادَّاً كلَّ الآراء المخالفة لرأيه خطأً مطلقاً أيضاً, وهذا التوصيف ـــ إن صحَّ التعبير ــــ يتصف به أغلب أتباع هذه التيارات على اختلافها وتناقضها .

إنَّ هذا الأسلوب في النقاش يدلُّ بشكلٍ واضح على سيطرة تربية مترسِّخة في أذهان وعقول أبناء وطننا الذين تعلَّموا من النظام الفاسد دون أن يدروا ثقافة رفض الآخر المختلف , فقد عمل النظام على مدى عقود من الزمن على زجِّ كلِّ من يعارضه أو يختلف معه في الرأي في سجونٍ مظلمة , أو تهميشه في أحسن الأحوال وحرمانه من حقوقه المدنية من توظيفٍ وغيره من الحقوق التي تتكفَّل الدولة بتأمينها للمواطن , وبهذه السياسة استطاع كمَّ أفواه الناس عن النطق بالحق فترة طويلة من الزمن لأنَّ الضريبة غالية إذ أنها قد تصل في كثير من الأحيان إلى التصفية الجسدية للمعارضين , وما نراه اليوم من مشادات بين أبناء الوطن تصل في بعض الأحيان إلى القطيعة تعبيرٌ صارخٌ عن هذه التربية الأسدية , فكلُّ واحدٍ مقتنعٌ برأيه , ويرى أنه الحقيقة المطلقة وما سواه باطل , وهذا للأسف نفس أسلوب النظام الذي أدَّى إلى الثورة عليه ومن ثم إسقاطه .

إنَّ هذه السياسة التي انتهجها النظام في تعامله مع الآخر المختلف خلال عدة عقود نراه اليوم يدفع ثمنها غالياً , إذ أنها ستؤدي إلى سقوطه وزواله نهائياً من الحياة السياسية السورية , فلو أنه عمل كما يعمل العقلاء وقَبِلَ أن يتعايش مع الآخر تحت سقف الوطن لما حصل له ما حصل , ولما دفعْنا نحن ـ السوريين - ثمناً باهضاً من أجل الحصول على أبسط حقوقنا كبشر ألا وهو حقُّ الحرية والكرامة .

إنَّ ثقافة قبول الآخر المختلف ضرورة ملحَّة تفرضها علينا الظُّروف الحالية التي نمرُّ بها اليوم , ولذلك هي ثقافة لا بدَّ من نشرها بين أبنائنا حتى يستطيعوا أن يبنوا الوطن الذي يحتاج إلى كلِّ فردٍ فيه من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين , إذ لا يمكن لأيِّ طرفٍ مهما بلغت قوته وسطوته أن يلغي الآخر حتى لو كان ضعيفاً , ولنا في نظام الأسد وما فعله ثم ما حصل له مثلٌ قريبٌ , فالصدام لا يولِّد إلا الصدام , والعنف لا يولِّد إلا العنف , وما أروع تلك المقولة التي أطلقها الكاتب والشاعر الفرنسي ( فولتير ) ! عندما قال : " قد أختلفُ معك في الرأي , ولكن اعلم أني مستعدٌّ لدفع حياتي في سبيل أن تقول رأيك " .

إنَّ أول خطوة برأيي في هذا الطريق هي أن نبدأ بأنفسنا قبل أبنائنا , وذلك بإقناع كلِّ واحدٍ منَّا نفسه بأنَّ ما يطرحُهُ هو رأيٌ يقبل الخطأ أو الصواب , أو هو فهمٌ لقضيةٍ ما من منظوره هو , وقد يختلف الآخرون في فهمها , ثم عليه أن يعوِّد نفسه في مناقشة الآخرين على الهدوء , ويفصل بين اختلافه معهم بالرأي وبين علاقته معهم كأصدقاء أو أبناء وطن واحد , فالاختلاف في الرأي لا يلغي للودِّ قضيَّة , وبذلك يمكن أن يكون من هو في أقصى اليسار صديقاً لمن هو في أقصى اليمين طالما أنهما يعيشان في وطن واحد يأكلان من خيره ويشربان من مائه .

قد يقول قائلٌ : إنَّ ما تطرحه هو حلم يصعب تحقيقه في مجتمعنا الذي بالأساس يعاني من أمراضٍ شتى .

أقول له : إنَّ ما أصبو إليه كمواطنٍ في هذا البلد هو العمل على نشر هذه الثقافة ـــ ثقافة قبول الآخر ـــ لأنها برأيي وجهٌ من وجوه حضارة المجتمع وتقدُّمِهِ , ولا يمكن الوصول إليها إلا بتضافر كل الجهود , فالمعلم في صفِّهِ , والأب في أسرته , والشيخ في مسجده ومنبره , فإذا جاء جيلٌ من أبناء الوطن ـــ حتى ولو بعد حين طبَّقَ ما نصبو إليه ـــ نكون قد وصلنا إلى الغاية المنشودة .

التعليقات (1)

    عمر

    ·منذ 10 سنوات 10 أشهر
    مقال جميل لأن الفكرة ضرورية لكن الاميين والشبيحة القائمين على اعلام الثورة لا يفهمون هذا الكلام
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات