إنَّ هذا الأسلوب في النقاش يدلُّ بشكلٍ واضح على سيطرة تربية مترسِّخة في أذهان وعقول أبناء وطننا الذين تعلَّموا من النظام الفاسد دون أن يدروا ثقافة رفض الآخر المختلف , فقد عمل النظام على مدى عقود من الزمن على زجِّ كلِّ من يعارضه أو يختلف معه في الرأي في سجونٍ مظلمة , أو تهميشه في أحسن الأحوال وحرمانه من حقوقه المدنية من توظيفٍ وغيره من الحقوق التي تتكفَّل الدولة بتأمينها للمواطن , وبهذه السياسة استطاع كمَّ أفواه الناس عن النطق بالحق فترة طويلة من الزمن لأنَّ الضريبة غالية إذ أنها قد تصل في كثير من الأحيان إلى التصفية الجسدية للمعارضين , وما نراه اليوم من مشادات بين أبناء الوطن تصل في بعض الأحيان إلى القطيعة تعبيرٌ صارخٌ عن هذه التربية الأسدية , فكلُّ واحدٍ مقتنعٌ برأيه , ويرى أنه الحقيقة المطلقة وما سواه باطل , وهذا للأسف نفس أسلوب النظام الذي أدَّى إلى الثورة عليه ومن ثم إسقاطه .
إنَّ هذه السياسة التي انتهجها النظام في تعامله مع الآخر المختلف خلال عدة عقود نراه اليوم يدفع ثمنها غالياً , إذ أنها ستؤدي إلى سقوطه وزواله نهائياً من الحياة السياسية السورية , فلو أنه عمل كما يعمل العقلاء وقَبِلَ أن يتعايش مع الآخر تحت سقف الوطن لما حصل له ما حصل , ولما دفعْنا نحن ـ السوريين - ثمناً باهضاً من أجل الحصول على أبسط حقوقنا كبشر ألا وهو حقُّ الحرية والكرامة .
إنَّ ثقافة قبول الآخر المختلف ضرورة ملحَّة تفرضها علينا الظُّروف الحالية التي نمرُّ بها اليوم , ولذلك هي ثقافة لا بدَّ من نشرها بين أبنائنا حتى يستطيعوا أن يبنوا الوطن الذي يحتاج إلى كلِّ فردٍ فيه من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين , إذ لا يمكن لأيِّ طرفٍ مهما بلغت قوته وسطوته أن يلغي الآخر حتى لو كان ضعيفاً , ولنا في نظام الأسد وما فعله ثم ما حصل له مثلٌ قريبٌ , فالصدام لا يولِّد إلا الصدام , والعنف لا يولِّد إلا العنف , وما أروع تلك المقولة التي أطلقها الكاتب والشاعر الفرنسي ( فولتير ) ! عندما قال : " قد أختلفُ معك في الرأي , ولكن اعلم أني مستعدٌّ لدفع حياتي في سبيل أن تقول رأيك " .
إنَّ أول خطوة برأيي في هذا الطريق هي أن نبدأ بأنفسنا قبل أبنائنا , وذلك بإقناع كلِّ واحدٍ منَّا نفسه بأنَّ ما يطرحُهُ هو رأيٌ يقبل الخطأ أو الصواب , أو هو فهمٌ لقضيةٍ ما من منظوره هو , وقد يختلف الآخرون في فهمها , ثم عليه أن يعوِّد نفسه في مناقشة الآخرين على الهدوء , ويفصل بين اختلافه معهم بالرأي وبين علاقته معهم كأصدقاء أو أبناء وطن واحد , فالاختلاف في الرأي لا يلغي للودِّ قضيَّة , وبذلك يمكن أن يكون من هو في أقصى اليسار صديقاً لمن هو في أقصى اليمين طالما أنهما يعيشان في وطن واحد يأكلان من خيره ويشربان من مائه .
قد يقول قائلٌ : إنَّ ما تطرحه هو حلم يصعب تحقيقه في مجتمعنا الذي بالأساس يعاني من أمراضٍ شتى .
أقول له : إنَّ ما أصبو إليه كمواطنٍ في هذا البلد هو العمل على نشر هذه الثقافة ـــ ثقافة قبول الآخر ـــ لأنها برأيي وجهٌ من وجوه حضارة المجتمع وتقدُّمِهِ , ولا يمكن الوصول إليها إلا بتضافر كل الجهود , فالمعلم في صفِّهِ , والأب في أسرته , والشيخ في مسجده ومنبره , فإذا جاء جيلٌ من أبناء الوطن ـــ حتى ولو بعد حين طبَّقَ ما نصبو إليه ـــ نكون قد وصلنا إلى الغاية المنشودة .
التعليقات (1)