واليوم ونحن نحاول استقراء الواقع من خلال الخطاب الذي نسمعه في بعض المناسبات ,كمجالس العزاء مثلاً أو خطب الجمعة , أو ما نراه ونسمعه عبر بعض الفضائيات التي ظهرت ناطقة باسم الثورة السورية , نجد تبايناً بين نوعين من الخطابات , نوعٌ يمكن أن نطلق عليه الخطاب السِّياسيَّ , ونوعٌ آخر يمكن أن نطلق عليه الخطاب الدِّينيَّ , إلا أننا يجب أن نعي أن الخطاب الأخير لا يمثِّل كلَّ أطيافِ هذا التَّيَّار , بل يمثِّل اتجاهاً واحداً منها فقط .
أمَّا الخطابُ الأوَّلُ وهو الخطاب السِّياسيُّ , فهو الخطاب الذي انطلقت الثورة السُّورية في بدايتها على أساسه , إذ أنَّه ومن الأيام الأولى لبداية الثورة تبنَّى مقولة الوطن للجميع , ودعا إلى رفع شعار ( واحد واحد واحد الشعب السوري واحد ) , كما حاول أن يبتعد في خطابه عن الطائفية واضعاً نصب عينيه هدفاً واحداً وهو إسقاط النظام , ثم بناء دولة المواطنة التي تكفل حقَّ الجميع بالمساواة والعدالة والكرامة والحرية , معلناً على الملأ أنها ثورة شعبٍ مظلوم ضدَّ نظامٍ ظالم مستبدٍّ .
أمَّا الخطاب الثاني ذو الصبغة الدينية , فهو الذي ظهر وأخذ ينتشر كردة فعل لما ارتكبه النظام من جرائم بشعة بحقِّ معارضيه وخاصة من أهل السنّة , فرحت تسمع في خطب الجمعة أو مجالس العزاء أو في بعض الفضائيات التي تبنَّت هذا الخطاب إلى درجة أنَّ واحدة من هذه المحطَّات كتبت في أعلى الشاشة على اليمين ( الدم السني واحد ) , أو تقرأ على بعض صفحات "النت" في مواقع التواصل الاجتماعي ( فيس بوك , تويتر ) على لسان بعض المشايخ أنَّ المعركةَ معركةُ إيمانٍ وكفر , وأنَّ هذه الطائفة النصيرية الكافرة تقتل أبناءنا وتنتهك أعراضنا إلى آخر ما يمكن أن يذهب إليه المتحدِّث منهم في معالجته للموضوع .
ومع أن النظام لا يحتاج إلى حججٍ تعينه على إجرامه إلا أنه قام بتوظيف هذا الخطاب لصالحه , واستطاع بخبثه اللعين أن يجرَّ وراءه الطائفة العلوية معارضين وموالين ليسيروا معه إلى نهاية النَّفق المظلم بادعائه أنَّ هؤلاء سيعملون على ذبحكم وقتل أبنائكم , ولذلك لا منجاة لكم ولا خلاص إلا بالوقوف معي في هذه المعركة , فاستطاع جرَّهم إلى دائرة الصراع مستخدماً أساليب قذرة , وذلك في توريطهم أكثر فأكثر تاركاً المجرمين الوحوش من شبيحته يقتلون الأطفال والنساء والشيوخ كما حدث في مجزرة الحولة وغيرها , ومستفيداً من ردة الفعل هذه التي بدأت تظهر في أوساط الثورة نتيجة هذه الجرائم , فجعلها طائفية لأنَّ ذلك يصبُّ في مصلحته ويضمن بقاءه أو يطيله على أقل تقدير .
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن , أيُّ الخطابين يعبِّر عن ثورة الشعب السوري البطل ؟ وأيُّهما يصبُّ في صالح الوطن في نهاية الأمر ؟
إنَّ الإجابة على هذه التساؤلات المشروعة تستوجب منا أن ننظر إلى الساحة الدولية المرتبطة بالإرادة الأمريكية والتي سعت ومازالت تسعى كي يبقى الأسد حاكماً رغم التصريحات الكثيرة التي تتطالبه بالرحيل , ولذلك علينا أن نعي تماماً أنَّ الآخر خائفٌ منا , وبما أنه كذلك فإنه لن يدعنا نبني دولتنا إن لم نحسن اللعب بنفس الأوراق التي يلعب بها .
إنَّ من الخطأ الفادح أن يظنَّ البعض منا أنَّ نجاح الثورة يتوقف على سقوط النظام فقط , بل إنَّ سقوطه هو الخطوة الأولى للنجاح , ووراء هذه الخطوة سنوات من العمل المضني في بناء الدولة , والوفاء بما وعدت به الثورة والثوار من تأسيس دولة مدنية ديمقراطية قائمة على العدل والمساواة .
من هنا يمكن أن نؤكد حسب ما أرى على ضرورة اعتدال الخطاب , والبعد عن التحريض الطائفي لأنَّه يصبُّ دون أن ندري في مصلحة النظام وليس في مصلحة الوطن , ذلك أنَّ الخطاب التحريضي الذي يصوِّر المعركة على أنها معركة إيمانٍ وكفر - إيمانٍ يحمل لواءه المسلمون السنة , وكفرٍ يحمل لواءه العلويون ومن حذا حذوهم سيُدخِل البلادَ في صراعاتٍ طائفيَّة لا أحدَ منتصر فيها , علاوةً على أنَّ ذلك من الممكن أن يدفع الدول الغربية إلى التدخّل سريعاً , وإرسال قواتها خلال أيام ( كما فعلت في مالي ) وذلك بحجَّة حماية الأقليّات الأمر الذي سيؤدي فيما بعد إلى تقسيم سوريا .
إنَّ الخيار الأفضل برأيي لنا نحن – السوريين – جميعاً وخاصةً الثوَّار إذا أردنا أن نبني دولتنا بناءً حقيقياً ونختصرَ ما أمكن فترة المخاض التي سنمرُّ بها , هو في العودة إلى الشعار الأول الذي رفعته ثورتنا العظيمة وهو ( واحد واحد واحد الشعب السوري واحد ) , والسعي لبناء دولة العدالة والمساواة التي لا فرق بين مواطنيها إلا بما يقدِّمُهُ كلٌّ منهما للوطن .
التعليقات (1)