شعراء الالتزام والدفاع عن "الدعوة" بين الرتابة والارتقاء الفني إلى الإبداع

شعراء الالتزام والدفاع عن "الدعوة" بين الرتابة والارتقاء الفني إلى الإبداع

لم يكن الشعر العربي عبر عصوره المختلفة بعيداً عن الالتزام بقضايا المجتمع العربي، ومن ثم بعد ذلك المجتمع العربي الإسلامي بعد نزول الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبداية الدعوة إلى الإسلام، والذي تبعه قيام الدولة الإسلامية التي حكمت العالم قروناً، وفي العصر الحديث ظهرت جوانب عدة التزم بها بعض الشعراء مثل الجانب القومي من أمثال سليمان العيسى.

ففي العصر الجاهلي كان من الشعراء من التزم الغواني ومجالس اللهو، ومنهم بل أولهم وعلى رأسهم امرؤ القيس الذي أمضى حياته لاهياً راكضاً نهماً وراء ملذاته، خلا سني عمره الأخيرة التي ترك فيها اللهو وراح يسعى للثأر لأبيه الملك حجر بن الحارث الكندي الذي قتله بنو أسد.


وعند بداية الدعوة الإسلامية ونزول الوحي على الرسول الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، بدأت توجهات أخرى للشعر العربي حيث برز الجانب المنافح عن الدعوة وعن صاحبها صلى الله عليه وسلم، فكان حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير بعد ذلك، فهؤلاء وغيرهم اتخذوا موقف المنافح والمدافع عنه صلى الله عليه وسلم وعن دين الإسلام الذي أوحي إليه به من رب العالمين.

وهنا يمكننا القول كانت بداية الشعر الملتزم بالدعوة .. ينافح عنها بكل ما أوتي من قوة البيان وفصاحة اللسان.


ولعله لم يخل زمن من الأزمان أو قرن من القرون من شاعر أو أكثر التزم هذا الجانب في شعره، فجعل من نفسه ومن شعره قوة جبارة تدافع عن الإسلام وتظهر جوانبه الإيجابية وترد على من يشككون فيه كدين حق نزل به الروح الأمين على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.


ولعلنا إذا ما استثنينا الأزمنة القديمة وشعراءها الملتزمين بالدعوة، واكتفينا بشعراء العصر الحديث، فإننا ستواجهنا لا شك مسألة الجودة الفنية في هذا الشعر عموماً، فقد غلب على أغلبه النظم البعيد عن الشعرية الفذة خلا بعض اللمحات هنا وهناك.


ولقد برز من شعراء الدعوة في هذا العصر شعراء كثر منهم على سبيل المثال الشاعر محمد منلا الغزيل رحمه الله الذي أقدم على حرق شعره الذي كتبه أيام الشباب الأول، وأبقى فقط ما التزم به في الدعوة والدفاع عنها، ولقد كان للمنبر الذي اعتلاه الغزيل خطيباً فذاً في مساجد منبج لسنوات كثيرة أثر كبير في صبغ شعره بالمنبرية، حتى كأن قصائده خطب عصماء يلقيها من على منبر المسجد منافحاً بها عن الدعوة،  وبالنظر إلى شعره عموماً، فإننا قلما نجد لمحة فنية عبقرية تأخذ بالألباب، فقد غلب على شعره الرتابة والمباشرة، وكأن الشاعر هنا أخذه الموضوع الذي يكتب فيه، فكان هدفه إظهار فكرته وإيصالها إلى الجمهور بأبسط أسلوب وأقربه إلى الفهم، معتبراً ذلك هدفاً سامياً يستحق من الشاعر المجازفة بالجوانب الفنية الأخرى، فاقرأ له مثلاً قوله: 

يا سيدي يا رسول الله يسعدنا
في يوم ذكراك إنشادٌ وتعبيرُ


نستلهم النور من أسمى مطالعه
حتى يفيض على آفاقنا النورُ


أوتيت خمساً من الرحمن خالصةً
جرى بها بجلال السبق تقديرُ


فلنقتبسْ في رحاب الأنس جذوتها
وليشمخ الحقُّ .. ولتُمحَ الأساطيرُ


ومن الشعراء الذين التزموا الدعوة في شعرهم كله في العصر الحديث الشاعر يوسف عبيد رحمه الله الذي امتاز بقصائده الطوال، أضف إلى أنه لم يكن أسير النظم والمباشرة كثيراً، فإنك وأنت تقرأ شعره ستقع على لمحة عبقرية هنا وصورة رائعة هناك، مغلفاً كل ذلك بلغة منسابة مطواعة بعيدة عن التكلف، فاقرأ له مثلاً قصيدة عاشق الشمس التي يصور بها كيف أن الخُلْد ذلك الحيوان الذي يمضي حياته يحفر في الأرض باحثاً عن عقد محبوبته الشمس الذي ضاع في تراب الأرض، حيث طلبت منه أن يعيده إليها، فهو ما زال في سبيل حبيته الشمس يسعى جاهداً للحصول عليه وإعادته ليزين جيد محبوبته الغالية، ولعله لا يخفى على القارئ الكريم المغزى الذي هدف إليه الشاعر من وراء هذه الأسطورة، فهو يريد أن يحض الأجيال القابعة في الظلام أن تجتهد وتجدّ لتخرج من طبقات الليل القابعة فيها إلى نور الحق والضياء، فالحصول على الشيء الثمين لا بد من بذل الغالي والنفيس للوصول إليه:

عشق الشمس ضحىً لمّا رآها
تهتدي الدنيا وتحيا بضياها


شفّه الوجد وأضناه الهوى
وسباه الحسن من نور سناها

ودّ أن يرقى إليها لو غدا
ذرةً تُصهَر في حرّ لظاها


قال يوماً يا ملاك الحسن هل
لفتةٌ توقظ في النفس مُناها؟


قالت الحسناء قولاً ظنّه 
همسَ وحيٍ أرسلته شفتاها


ضاع عقدي فهوى في أرضكم
وهوى القلب مع العقد وتاها


ردّ لي عقدي وقلبي تلقني
خيرَ من مُدَّتْ إلى الحبّ يداها


ولعل من أبرز شعراء الدعوة الذين راعوا الجانب الفني أهميته في شعرهم، وابتعدوا قدر المستطاع عن المباشرة والتقريرية، هو الشاعر عبد الله عيسى السلامة، فقد استطاع هذا الشاعر الكبير أن يوازن بين مستلزمات شعر الدعوة وبين الجوانب الفنية للشعر، فقدّم مادة شائقة في شعره قدمت الفكرة المجردة بلبوس فني جميل، فكان بحق شاعر دعوة فذاً، تجاوز الرتابة التي أسرت غيره من شعراء الدعوة، فاقرأ له مثلاً مأساة نحلة التي يصور فيها جبروت الإنسان في سلبه لجهد غيره دون رادع من ضمير، فيقول:

يا جانيَ الشهد هل عاينت حرماني
وهل تحسستَ أفراحي وأحزاني؟


وهل تأملتَ جسمي وهو منقبضٌ
في الريح، يحميه جنحٌ متعبٌ وانِ؟


وا شقوتاه متى أجني الرحيق وقد
بان الصباح وطول السير أضناني


حتى إذا طاب شهدي لذةً وجنىً
ورحتُ أحسب في سري وإعلاني


فاجأتني يا ثقيل الظلّ تسلبني
ذخر الحياة كما لو كنتَ ديّاني

ولعلنا أخيراً نستطيع القول إن ما ذكرناه من أمثلة آنفاً لا يمثل إلا غيضاً من فيض من شعراء رهنوا شعرهم وحياتهم للدعوة، ولعلنا من خلال ما ذكرناه نستطيع أن نركن إلى أنّ شعر الدعوة في أكثره تراوح بين العادي المطروق وبين الجيد، باستثناء قلة استطاعوا الخروج من هذا الطريق ليرسموا لأنفسهم طريقاً خاصة بهم تتناسب مع موهبتهم الفذة وشعريتهم العالية، فقدموا بذلك شعراً متميزاً من حيث الجودة الفنية رغم انتسابه لشعر الدعوة.

التعليقات (4)

    Mustafa ALBATRAN

    ·منذ سنة أسبوعين
    أحسنت النشر والتعبير يا أبا ناصر
4

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات