لا تزال مناطق واسعة في إدلب وريف حلب الغربي شمال غرب سورياـ تشهد تصعيداً عسكرياً مكثفاً، ارتفعت وتيرته منذ بداية تشرين أول/ أكتوبر الجاري، إذ لا يكاد يمرّ يوم دونما استهداف ميليشيا أسد للمدينة وريفها براجمات الصواريخ وقذائف المدفعية والأسلحة العنقودية والحارقة المحرمة دولياً إلى جانب الطيران الحربي.
تصعيد "غير مسبوق"
الدفاع المدني السوري، كان قد وصف التصعيد العسكري بـ "غير المسبوق" منذ عام 2020، والذي يهدّد حياة ملايين السكان ويضاعف مأساتهم بعد أكثر من 12 عاماً من الحرب والتهجير، لا سيما أنه يستهدف الأحياء السكنية والمدارس والمرافق العامة.
وحسب الدفاع المدني، فقد استجابت فرقه حتى يوم 22 تشرين الأول لـ 238 هجوماً على 68 مدينة وبلدة في مناطق شمال غرب سوريا، فيما تسبّبت الهجمات حتى الآن بمقتل أكثر من 60 مدنياً بينهم 22 طفلاً وإصابة 355 آخرين منذ بداية تشرين أول الجاري، كما استهدفت الهجمات 13 مدرسة، و5 مساجد، و5 أسواق، و5 مستشفيات ومراكز طبية، و4 مراكز للدفاع المدني السوري، و5 مخيمات، إضافةً لهجومين على محطات مياه، وهجوم على محطة كهرباء.
الأمر الذي أدى لموجة نزوح كبيرة وتقويض عملية التعليم وسبل العيش والتعافي للمجتمعات التي لم تتعافَ بعد من كارثة زلزال شباط/ فبراير الفائت، الذي ضرب أجزاء واسعة من الجنوب التركي والشمال السوري.
من جهتها كانت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" قد وثقت، منذ 5 حتى 25 من تشرين الأول الحالي، مقتل 62 مدنياً بينهم 24 طفلًا، و13 سيدة وثلاثة من العاملين في المجال الإنساني نتيجة هجمات شنتها ميليشيا النظام والاحتلال الروسي على مناطق في محافظات إدلب وحلب وحماة شمال غرب سوريا.
الناشط السياسي السوري، "عبد الكريم العمر" رأى أن ما يحصل في غزة من مجازر فتحَ شهية النظام وميليشياته بالتصعيد العسكري في إدلب وارتكابه مجازر عديدة، إضافة لتعمده استهداف مركز المدينة التي تحوي كتلة بشرية ضخمة بقصف شديد لم يُعهد سابقاً، عدا عن امتداد القصف نحو مناطق "أريحا والدانا وسرمين ودارة عزة وترمانين".
ويبدو أن لا أحد في المجتمع الدولي يعترف بالموضوع السوري، -حسب حديث العمر لأورينت- لأن الأنظار كلها متجهة نحو غزة وقبلها أوكرانيا، كما إن دعم المجتمع الدولي يتضح نحو الاحتلال الإسرائيلي في حربه ضد غزة من جهة، والنظام في حربه ضد السوريين من جهة أخرى.
وتوقّع العمر استمرار التصعيد خاصة مع غياب الرادع الفعلي له سواء من المجتمع الدولي أو من فصائل المعارضة والتي لا تمتلك سلاحاً نوعيّاً رادعاً يوقف عربدة النظام، لافتاً أن اشتداد حركة النزوح مع التصعيد الممنهج ضد المدنيين الذين يعيشون واقعاً معيشياً مأساوياً، هو ما يزيد المشهد سوءاً مع حلول فصل الشتاء.
وكان فريق منسقو استجابة سوريا (فريق إحصائي شمال سوريا)، قد وصف حركة النزوح بـ "الأكبر في المنطقة منذ سنوات" والتي قدّرت بأكثر من 100 ألف مدني نزحوا من مختلف المناطق باتجاه مناطق آمنة نسبياً بعيداً عن مناطق الاستهداف، وما رافق النزوح من حرمان أكثر من مليوني مدني من الخدمات الطبية بعد توقف المشافي والنقاط الطبية عن العمل. مطالباً كافة الأطراف باحترام القانون الدولي الإنساني والتوقف عن استهداف المدنيين والنازحين في المخيمات بشكل فوري والابتعاد عن استهداف المناطق السكنية المأهولة. وتجنيب المنطقة المزيد من النزوح وخاصة مع اقتراب فصل الشتاء الأمر الذي يزيد من مصاعب العمليات الإنسانية وزيادة حجم الاحتياجات في المنطقة.
خفض التصعيد إلى أين؟
تتمتع إدلب بأهمية حيوية وإستراتيجية باعتبار وقوعها على الطريق الدولي الواصل بين تركيا والشمال السوري، والربط بمناطق سيطرة ميليشيا في حماة والساحل، عدا عن كونها عقدة مواصلات بين مناطق حلب وشرق الفرات والساحل السوري، وقد تراجع نفوذ تحرير الشام ضمن محيط إدلب بشكل كبير بعد العمليات الأخيرة التي قادها الأسد والميليشيات الموالية له برفقة الاحتلال الروسي على أرياف حلب وإدلب وحماة، التي أدت إلى تقلص مساحات جغرافية واسعة ومدن كبرى، آخرها معرة النعمان التي تعد ثاني أكبر حواضر إدلب، وسراقب والقرى المحيطة بهما في العام 2020.
بالمقابل، فإن التفاهم التركي الروسي الذي وُقّع في موسكو في نفس العام، ينص على مكافحة جميع أشكال الإرهاب والقضاء على جميع الجماعات الإرهابية في سوريا، وإنشاء ممر آمن على امتداد 6 كيلومترات على طول كل جهة من جهتي طريق M4 الموجودة في المناطق المحررة، وتسيير دوريات مشتركة روسية وتركية عليه.
ومنذ ذلك التفاهم لم تتحول التهدئة لوقف إطلاق شامل، بل استمرت الاستفزازات والخروقات من طرف ميليشيا أسد والاحتلال الروسي، والردّ من تحرير الشام بعمليات انغماسية ضد مواقع لعناصر الأسد والميليشيات الموالية.
في تقدير موقف نشره مركز "جسور للدراسات"، آب/ أغسطس 2022، خلص إلى أن احتمال انهيار التهدئة في إدلب يبقى قائماً -رغم ضعفه- طالما أن الأطراف الضامنة لم تتوصل إلى تفاهم نهائي حول النقاط العالقة، من ضمنها حجم الانتشار العسكري التركي الكبير غير المنصوص عليه ضمن مسار أستانا، إضافة إلى آلية تشغيل الطرق الدولية، ومصير هيئة تحرير الشام، كما إن انخفاض فرص انهيار التهدئة لا ينفي احتمال لجوء النظام وحلفائه إلى التصعيد الميداني أحياناً لتحقيق مكاسب خلال مسار المفاوضات مع تركيا.
يعلّل الناشط العمر، مضيَّ النظام في تصعيد حملته الهمجية وارتكابه المجازر والقصف بالسلاح المحرم، بأنه يجد في التصعيد فرصة مناسبة لتهدئة الحاضنة الموالية بعد حادثة الكلية الحربية والتي اتهم بها المعارضة، إضافة لرغبته بالهروب من الواقع الاقتصادي المتردي وتوجيه الأنظار عن حالة التململ المحلي التي تعصف بمؤيديه.
من جهته يؤكد "محمد سالم"، مدير وحدة تحليل السياسات في مركز أبعاد للدراسات الإستراتيجية، أن النظام يعتبر الانشغال العالمي بغزة فرصة للقصف والتصعيد، فهناك تحذير أمريكي وصل للنظام من فترة بعدم الانخراط في موضوع غزة، وهذا يمكن أن يقرأه النظام بأنه ضوء أخضر لفعل أي شيء كالتصعيد في إدلب.
ويعتبر سالم في حديثه لأورينت، أن القصف والتصعيد يهددان الاستقرار الأهلي، لكنهما لا يهددان التهدئة بشكل كبير، فالتصعيد متعلق بعاملين، الأول: مرتبط بشدة قصف وكثافة نارية هستيرية وأعنف مما نشاهد الآن، والثاني: هو حدوث اقتحام بري، وهذا مستبعد باعتبار أن الظروف غير مواتية لاستجلاب قرار روسي ودعم إيراني للاقتحام، فضلًا عن أن الضامنَين الروسي والتركي غير مستعدين للدخول في تصادم كبير.
التعليقات (1)