"الكتابة الشبحيّة" مثار جدل بين إهمال المبدع وحاجاته والاعتبارات الأخلاقية

"الكتابة الشبحيّة" مثار جدل بين إهمال المبدع وحاجاته والاعتبارات الأخلاقية

في عام 2010 عُرض لأول مرة فيلم (the Ghost Writer) للمخرج العالمي "رومان بولانسكي" والمأخوذ عن رواية الشبح للكاتب البريطاني روبرت هاريس. حيث يحكي الفيلم قصة سياسي يستأجر كاتبًا ليتمم له كتابة مذكراته. ومن المفترض أن يكون هذا السياسي هو رئيس الوزراء البريطاني الأسبق "توني بلير" وذلك من عدة تلميحات وردت في سياق الفيلم. وفي البداية يطرح الممثل "بيرس بروسنان" سؤالًا على الكاتب الذي مثل شخصيته "إيوان مكريغور" فيقول له: من أنت؟ ليجيب الكاتب: أنا شبحك.

الأصول والتطور:

يعود مفهوم الكتابة الشبحية إلى قرون خلت، فقد انتشرت الكتابة بالنيابة لدى طبقات الملوك والحكام ما قبل الميلاد؛ ككتابة الخطابات والرسائل وما زالت... واكتسبت هذه الممارسة مكانة بارزة خلال عصر النهضة، عندما كان العلماء غالبًا ما يوظفون الكتبة لنسخ أعمالهم. ومع ذلك، فإن مصطلح "ghost writer" نفسه ظهر فقط في أوائل القرن العشرين. حيث باتت هذه الممارسة ملحوظة في ميادين الأدب والفن، ومنتشرة على نطاق واسع، نتيجة الطلب المتزايد على الأعمال الكتابية. 

حرفة الأشباح

يمتلك الكاتب الشبح قدرة فريدة على توجيه أصوات عملائه والتقاط أفكارهم وعواطفهم وترجمتها إلى نص بليغ. من خلال المقابلات والبحوث والتعاون المكثف، يصبح الكاتب الشبح وثيق الصلة بوجهات نظر عملائه، ما يضمن أن المنتج النهائي يجسد رسالتهم المقصودة. كما يتطلب فن الكتابة الشبحية التنوع والقدرة على التكيف والقدرة على الانتقال بسلاسة بين أنماط الكتابة وأنواعها المختلفة.

اعتبارات أخلاقية

وفي حين ترى فيها بعض الثقافات الغربية فعلًا عاديًا يدخل في خانة البيع والشراء والكتابة التجارية، تبقى في عالمنا العربي قابعة في الظل لاعتبارات كثيرة، منها: "الدخول في الوسط الثقافي من دون إثارة الضجيج"، كما يؤكد لنا الكاتب "م. ع" الذي رفض ذكر اسمه كونه يرى في هذا الفعل، أي الكتابة بالنيابة، فعلًا يؤدي إلى انحدار الأوساط الثقافية والأدبية، على الرغم من اشتغاله في هذه الممارسة، ويبرر ذلك: "بالحاجة الماسة إلى المال في ظل إهمال الأوساط الثقافية للمبدع ومنتجه". 

وفي حين أن الكتابة الشبحية لها نتائج إيجابية لا يمكن إنكارها، حيث تُمكّن الأفراد من خلفيات متنوعة من مشاركة قصصهم ومعرفتهم مع الآخرين. وغالبًا ما يلجأ السياسيون والمشاهير وقادة الفكر إليها للتعبير عن تجاربهم وأفكارهم، وتسخير قوة الكلمة المكتوبة للوصول إلى جمهور أوسع. لكن تنشأ الاعتبارات الأخلاقية عندما يُنسب التأليف إلى شخص آخر غير الشخص الذي قدم ما لديه من جهد في سبيل ظهور هذا العمل. ويجادل النقاد أيضًا بأن الكتابة الشبحية يمكن أن تقوض أصالة ونزاهة العمل، ما يؤدي إلى طمس الخط الفاصل بين التأليف الحقيقي والدعاية المحسوبة. ومع ذلك، يؤكد المؤيدون لهذه الممارسة ومن بينهم الكاتبة "م. م": "أن الكتابة الشبحية هي مسعى تعاوني، مما يبرز أن الأفكار والتجارب تظل صادقة للمؤلف المعتمد، حتى لو تم تنفيذ الكتابة الفعلية بواسطة شخص آخر". 

تأثير متباين على الأوساط الثقافية

على الرغم من أن الكتابة الشبحية تركت بصمة لا تمحى على المشهد الأدبي. فالعديد من الأعمال الشهيرة، من السير الذاتية إلى الروايات الأكثر مبيعًا، تدين بوجودها إلى الأقلام الماهرة من كتاب الأشباح. تبقى لها جوانب سلبية مؤثرة إلى درجة كبيرة، حيث تأخذ هذه الأعمال مساحة على حساب الأعمال الإبداعية الحقيقية، بالإضافة إلى أنها -وخصوصًا في عالمنا العربي- متباينة عن الأعمال الأصلية، فبحسب رأي الكاتب "م. ع" "لا يصب الكاتب الشبح جهده في الكتابة بالنيابة، مثلما يجتهد في عمله الأصلي، كما يبتعد كل البعد عن نفسه وأسلوبه الخاص، كي لا يظهر للعيان في نص عميله". وهذا الفعل بالتأكيد يدفع الكاتب إلى التكلف في كتابة نص العميل. 

بين التحرير والكتابة الشبحية

يعتبر الفرق شاسعًا بين مفهوم التحرير والكتابة الشبحية، فمهمة المحرر المعروفة هي معالجة النص لغويًا وتعديل مواطن الضعف والقصور في النص. لكننا نعرف كثيرًا من الأعمال التي تمت إعادة صياغتها من اللهجات المحكية إلى الفصيحة، أو إعادة صياغة الأفكار داخل النص بأكمله. وحيث يعتبر البعض ما تم تحريرًا، إلا أنه في مفهوم الكتابة أقرب إلى الكتابة بالنيابة. وإن إطلاق مفهوم التحرير عليه جاء تخفيفًا لوطأة مفهوم الكتابة بالنيابة، والذي يعتبر معيبًا بحق النص ومؤلفه غير الحقيقي في وقتنا الحالي.

رؤى متباينة

وبعد عدد من الأسئلة التي وجهناها إلى بعض من امتهنوا الكتابة الشبحية، نرى أن الغالب يميلون إلى أن النصوص التي قاموا بكتابتها لعميل ما، ينظرون إليها على أنها ملكهم، على الرغم من الاتفاقات التي تتم في الخفاء بينهم وبين من يتعاملون معه. وكذلك تبقى النظرة الدونية تجاه العميل هي المسيطرة على الكاتب الشبح، فهو غالبًا ما يحلل هذا التعامل على أنه قصور من جهة العميل، أي أن العميل غير قادر أو لا يستحق الوجود في الأوساط الثقافية والفكرية... بينما يرى بعضهم أن هذا التعامل ما هو إلا وظيفة مقصدها الربح المادي، ولا تعنيهم بقية التفاصيل.

وفي النهاية، تظل هذه الممارسة كجانب آسر من العالم الأدبي، فكونها سرية تضفي على النص روحًا غامضة تزيد في اكتشافه، كما تظل هذه الممارسة مساحة مبهمة كونها تدور غالبًا خلف الستار. 

التعليقات (3)

    3

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات