لعلنا بنظرة عامة إلى تاريخ الشعر العربي وشعرائه البارزين عبر العصور، ندرك مدى التصاق حياة العربي بالشعر، وهذا ليس بالغريب، فهم أهل شعر وخطابة، والبلاغة والفصاحة عندهم فطرية، يدركون بفطرتهم مدى جمال وحسن هذا القول من ذاك، وقد تحداهم الله عزّ وجلّ بالقرآن الكريم المعجزة الخالدة رسالة سماوية أنزلها على سيد ولد آدم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
ولا يغيب عن القارئ الكريم أن العنوان أعلاه مأخوذ من الآيات الكريمة التي نزلت في الشعراء في السورة التي سُمّيت باسمهم سورة الشعراء، حيث يقول تعالى:
"وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ".
وإذا ما أتينا نريد سبر أغوار الشعراء من خلال الاطلاع على نتاجهم الشعري، سنجد بعضهم تجاوز على المقدس وراح يهيم في وادٍ لم يكن ينبغي له أن يهيم فيه، فالشاعر بطبعه صاحب خيالٍ جامح لا تحدّه حدوده، ولا تضبطه ضوابط، فإذا ما رافق هذا رقة دين، وجدنا الشاعر يتجرّأ على الإتيان بألفاظ وعبارات تشير أحياناً إلى الكفر البواح.
ولعل شاعر العرب الشهير المتنبي أحمد بن الحسين كان الأستاذ لمن بعده في هذا المجال، فقد كان يملك نفساً ذات كبرياء عالٍ جداً، فتجعله يرى نفسه فوق الخلق أجمعين، وإن كنا لا نختلف على شاعرية المتنبي العظيمة، فإن هذا لا يتعارض مع كوننا نرفض كبرياءه العالية المغرورة، فما هو بالنتيجة إلا بشر خُلق من ماء مهين، وهذا الكبرياء العالي الذي اتصف به المتنبي، هو ما دفعه كما أعتقد إلى التجرؤ على المقدّس دون حسيب ولا رقيب، فاقرأ له مثلاً هذا البيت من إحدى قصائده أو مقطوعاته، وانظر إلى جرأته تلك:
يرتشفن من فمي رشفاتٍ
هن فيه أحلى من التوحيدِ
فتلك الرشفات التي تُرتشَف من فمه هي أحلى من توحيده لله.
وانظر إلى قوله مخاطباً أحد ممدوحيه، ووصفه له بالعظمة، فهذا الممدوح لو كان أمانة، لما اؤتُمن على حملها جبريل:
لعظُمتَ حتى لو تكون أمانة
ما كان مؤتمناً بها جبرينُ
وانظر معي هنا أيها القارئ الكريم إلى مخاطبته أحد ممدوحيه، خطاباً لا ينبغي لأحد إلا الله عز وجل، فيقول:
يا من ألوذ به فيما أؤمّله
ومن أعوذ به مما أحاذرُه
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسرُه
ولا يهيضون عظماً أنت جابرُه
لقد ذكرنا سابقاً أن المتنبي صاحب نفسٍ كبيرة ترى نفسها فوق الخلائق، وربما كان هذا الغرور الذي لا حدود له هو ما يؤخذ عليه وعلى أمثاله، وإن لم يتجاوز أحد حسب علمي المتنبي في غروره وكبريائه، فانظر ماذا يقول في إحدى مقطوعاته:
أَي مَحلّ أرتقي ....... أَي عَظِيم أتقي
وكــل مَا قــد خلق الله، وَمَا لم يخلقِ
محتقرٌ فِي همّتي كشعرةٍ فِي مفرقي
فهذا الكبرياء العالي دفعه إلى احتقار كل ما خلق الله من قبل ومن بعد، وكأنه يقول حتى الأنبياء والرسل والملائكة لا يصلون إلى أن يكونوا شعرة في مفرقي، فما هذا السخف الذي لا يقبله عقل ولا منطق؟!
وإذا ما غادرنا ضفة الشعراء القدامى، وقدمنا إلى الشعراء المعاصرين، سنجد أن الشاعر نزار قباني من أكثر من تجرّأ على المقدس، وتجاوز الخطوط الحمراء في ذلك، فانظر إليه في قصيدته الرسم بالكلمات، يأتي بعبارة لا يجرؤ على الإتيان بها إلا زنديق، فهو يشبه وجه حبيبته بوجه الله الذي ليس كمثله شيء، فتعالى الله عما يصفون:
إني أحبك من خلال كآبتي
وجهاً كوجه الله ليس يُطَالُ
ولعلي أستطيع أن أتصور كيف أن نزاراً عندما كتب هذا البيت، جاء معه أولاً وجهاً كوجه الشمس أو البدر أو الصبح، ولأنه وجد نفسه تقليدياً في هذا ولم يأتِ بجديد، أراد أن يفجر قنبلة ذرية ظنّاً منه أنه جاء بجديد مدهش، ولم يعلم أنه بهذا دخل مدخلاً لم يكن ينبغي له أن يدخله غفر الله له ورحمه.
ولعلي أجد نفسي مجبراً على الإتيان بمثال من الشعراء الشباب المعاصرين الأحياء الذين ساروا في هذا الطريق الوعر معتقدين أنهم يدهشون القارئ، وهم لا يدهشون فيما يقولون سوى أصحاب العقول السخيفة من أصحاب الأهواء ممن رق دينهم أو انعدم، فالشاعر إبراهيم السوطي شاعرٌ شاب دعته الجمعية الدولية للشعراء العرب إلى مهرجانها الأخير في إسطنبول في العام الجاري منذ فترة ليست بالطويلة، فخرج ليقرأ قصيدة تحمل من الجرأة الكثير، ليس على دين أو نبي، بل على الذات الإلهية نفسها، ليصف نفسه بصفات لا ينبغي أن تكون لغيره سبحانه وتعالى، فانظر إلى ما يقول:
يا إلهي الذي جعلت لحرفي
بين شمسٍ وغيمتين مجالا
أتعالى على الحروف كأنّي
قيل عنّي سبحانه وتعالى
ولعلي أخيراً يجب عليّ أن أنبّه إلى مسألة هامة جداً، وهي أني وغيري لسنا قضاة نحاكم الناس على ما يقولون، وندخل من نشاء إلى الجنة، ومن نشاء إلى النار، فهذه ليست مهمتنا ولا ينبغي أن تكون، فالناس أحرار فيما يقولون ويعتقدون، ولكننا أحرار أيضاً في قبوله أو رفضه، خاصة إذا كان يمس عقيدة نؤمن بها، ونعدّ التعدي عليها تعدياً علينا.
التعليقات (2)