بين الماضي والحاضر كل شيء يدعو إلى المقارنة، وهذه المقارنة تدعو إلى الإحباط، كان الطفل عندما يخرج إلى دكان الحي يرقص وهو يركض ويرقص وهو عائد فرحاً، وقد أخذ معه خمسة قروش اشترى بها وفرح بما اشتراه.
ولماذا الآن أحفاد هذا الطفل الذي كان طفلاً، يأخذون ورقة بقيمة خمسة آلاف ليرة سورية، والتي كانت تشتري بيتاً بدمشق، يأخذون هذه الورقة ويحتقرونها ولا يرقصون في الذهاب ولا يرقصون في الإياب.
هذه الومضة ومضت عندما سمعت بزيادة الرواتب للعاملين والمتقاعدين مئة بالمئة، أين سعادة ذلك الطفل ومعه القروش الخمسة؟ وأين سعادة أبيه الموظف؟.
عندما تأتي الزيادة في السبعينات والثمانينات والتسعينات مئة ليرة أو مئتي ليرة فيفرح بهذه الزيادة مثلما كان يفرح بالقروش الخمسة، ولكن كان عندنا من لا يجدون وقتاً لسماع خبر الزيادة ولا وقتاً لاستهلاكها.
كانت الزيادة بالنسبة للبعض وهم قلة لا تشكّل صفراً بالنسبة لما انتزع من المصرف المركزي في أواسط الثمانينات. كانت زيادة الرواتب بالنسبة لهؤلاء مكافأة لهم بسبب تركهم دمشق والانتقال إلى باريس، والعودة مؤخراً دون الأموال التي أخذوها ودون أرباح استثماراتها خلال الأربعين عاماً.
الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة، كل منهما يعطي تصوّراً واضحاً عن حياة الفرد في المجتمع الذي يعيش فيه ويفرض عليه حياة أو مساراً يتحرك من خلاله، وهما علمان متناغمان متلازمان رسم كل منهما الخطوط العريضة للآخر لأي بلد، فالسياسة السليمة والواضحة والمناسبة تنتج اقتصاداً سليماً وواضحاً يخدم الإنسان الذي هو الغاية الأولى والهدف المثالي لكل السياسيين والاقتصاديين في كل الدول والمجتمعات الذين يسعون لتطوير دولتهم والحفاظ عليها من الانهيار.
بسكل بسيط للفهم، السياسات الاقتصادية للدول يجب أن تحقق بالحد الأدنى التوازن بين الإيرادات الحكومية المتنوعة والتي يتم تحصيلها ودخولها في خزينة الدولة (مثل الضرائب وغيرها من مصادر الدخل) وبين نفقات الدولة العامة ومصروفاتها المُتنوعة والمُرتبطة بالمشروعات المختلفة لهذه الدولة (مثل الأجور والرواتب وغيرها من المصروفات).
فالاقتصاد مرتبط بحياة الناس وينبغي على السياسات الاقتصادية للدول أن تعمل جاهدة لتحقيق أبسط حقوق الإنسان في العالم وهي المسكن والمأكل، وهنا يأتي السؤال المهم، ما هي السياسات الاقتصادية لسوريا؟.
ببساطة إن السياسة الاقتصادية السورية لا ينطبق عليها أي مفهوم من السياسات الاقتصادية لأي دولة في العالم، لا هو اشتراكي ولا رأسمالي ولا اجتماعي، بل فوضى وعشوائية وفساد وارتفاع الأسعار وتفاوت كبير جداً في أحوال الناس في المجتمع الذي انقسم إلى فئتين فقط، فئة قليلة من المسؤولين الكبار في الدولة وتجار الأزمة الذين يمتلكون السيارات الفارهة والقصور الفخمة، وبين غالبية الناس السوريين الفقراء الذين لا يمتلكون إلا حزنهم وكرامتهم التي تنفد يوماً بعد يوم.
وهنا أذكر ما رواه د.عارف دليلة، الخبير والمفكر السياسي والاقتصادي السوري عن إحدى قصص الفساد في البلد المنكوب سوريا وتحذيراته المتكرره لتجنب ما وصلت إليه الآن.
في أواخر الثمانينات كان رئيس اتحاد العمال السوري، عز الدين ناصر، المعيّن من قبل معلمه كأحد الأعضاء الخمسة الدائمين في لجنة انتقاء الوزراء عند أي تشكيل وزاري جديد تقوم به القيادة القطرية في الحزب (القائد للدولة والمجتمع)، وكان أحد أهم مدمّري وحرامية القطاع العام وفي الاقتصاد عموماً، اتصل بالدكتور عارف والتقيا، وقال: أريد أن أنظّم في اتحاد العمال ندوة شهرية كل أول سبت من كل شهر مثل “ندوة الثلاثاء”، التي كانت في المركز الثقافي بالمزة، والتي كان الدكتور عارف محركها المعارض، كمنبر وحيد علني في سوريا لتفسير الوقائع علمياً ولانتقاد وفضح الارتكابات والمرتكبين، ليس في الاقتصاد فقط، بل في الإدارة الحكومية عموماً بما في ذلك السياسات العامة. فطلب عز الدين ناصر من الدكتور عارف برنامجاً لـ12 ندوة خلال سنة بما فيه تحديد العناوين وأسماء الأساتدة المحاضرين.
فقال الدكتور عارف: يجب أن نبدأ أولاً بالمسؤولين لكي يقدّموا من وجهة نظر السلطة، خريطة الوضع العام بالبلد، ثم يتلوهم الخبراء والأساتذة الاقتصاديون، واقترح أن نبدأ برئيس المكتب الاقتصادي القطري، رئيس مجلس الشعب، عبد القادر قدورة (وكان الشريك الكبير له في نهب وتدمير الاقتصاد السوري بنشر الفساد وتصنيع الفاسدين، وكانا من بين المساعدين لمحمد مخلوف معلم كل الفاسدين، ومنهم أيضاً محمد حيدر، حصان طروادة الفساد في سوريا، في النصف الأول من السبعينات، إلى جانب عبد الحليم خدام، الذي طار بدون ملياراته وقصوره، مثل رفيقيه اللذين سبقاه مصطفى طلاس وحكمت الشهابي، وكثيرون جدًا ممن أخرجوا سوريا من الجغرافيا والتاريخ!).
كان موعد المحاضرة، قد تحدد يوم السبت في مطلع نيسان من عام 1987، لكن عبد القادر قدورة، لاحقاً لإعلان الموعد، خمّن جيدًا بأنه سيكون قبل أسبوعين من انتخابات مجلس الشعب الذي يتولى رئاسته إلى الأبد، وقد يتعرض إلى بهدلة تهز صورته كأحد المقدّسين!، ففاجأ الجمهور الذي تقاطر إلى قاعة اتحاد العمال في المساء الموعود (مقابل فندق المريديان) بالاعتذار وتأجيل المحاضرة بسبب الانشغال!
وبعد الانتخابات التي فاز بها كالعادة، بأكثر من 600 ألف صوت (ليس من بينها أصوات حقيقية أكثر من مئة) ليأتي في السبت التالي، كالطاووس، ويلقي المحاضرة عن (التطورات الاقتصادية والاجتماعية في سوريا بعد ثورة الثامن من آذار)، وكأنه يسبح في بحر النعيم!
وكانت مناسبة للدكتور عارف أمام حشد من المسؤولين ورجال القطاع العام والحزبيين والجمهور أن يعلّق تعلقياً طويلاً، قلب فيه معظم ما عدّه المحاضر من الإنجازات غير المسبوقة إلى إخفاقات ونفايا فساد وتدمير هادف وواعٍ ومقصود!
وهكذا انتهت الندوة الأولى والأخيرة في البرنامج السنوي للاثنتي عشرة محاضرة المعلن!.
فيا أيها الشعب السوري في الداخل والمنفى مبارك عليكم مكرمات القيادة وخيباتها وكوابيسها، مبارك صدور المرسوم التشريعي الذي انتظرتموه طويلاً لرفع أسعار الوقود والطاقة والمواد الغذائية والمواصلات ورفع الدعم عن البنزين؛ بدل رفع الحواجز من الطرقات وبدل رفع الإتاوات عن أصحاب المحلات التجارية والأسواق.
إنّ ما سبق ما هو إلا نتاج موضوعي في دولة مستبدة، أعلنت الحرب على شعبها، وتضع كافة مواردها في خدمة نظامها الفاسد، دافعة نحو فساد كامل ليأكل أفراد المجتمع بعضهم البعض.
ما ينتظر سوريا كارثياً، فاذا استمر الوضع كما هو ودون حل سياسي ودون مشروع جاد لإعادة الإعمار، فقد يصبح سعر رغيف الخبز لا قدّر الله مقدار راتب الموظف لشهر كامل.
قال أبو ذر الغِفاري: عجبت لمن لا يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه؟
التعليقات (35)