كان الخوف من الدولة راسخاً منذ القدم ولكن ليس قبل العهد الطوطمي الذي كان يجسد القيم المحورية في حياة الجماعة أو المجتمع, وما مشاعر الإجلال والإكبار التي يحملها أفراد الجماعة إزاء الطوطم إلا تعبير عن احترامهم للقيم الاجتماعية الأساسية السائدة بينهم.
كانت إدارة الإنتاج وإدارة توزيعه بيد الأسرة وفي أيامها كان يجري توزيع المنتجات بالتبادل سلعة بسلعة أو عدة سلع بعدة سلع وبدون نقد, ثم زاد عدد السكان وبرزت الحاجة إلى التقنين وصار التقنين عن طريق النقود أو ما يعد نقوداً, ثم ظهرت الدولة لتتحكم بالنقود وبما يعد نقوداً وانفرض الجوع والخوف على الناس وتكرس الجوع, بأن صار الفقراء أكثرية ساحقة وصار الأغنياء أقلية, ولكنهم يملكون القدرة على الوصول إلى الدولة وإلى الفقراء لسحقهم, وسحق انتفاضاتهم باستمرار, وتكرس الخوف باختراع منظومة الشرطة والجواسيس.
لا يكفي لنشأة الدولة وقيامها وجود شعب يسكن مكاناً معيناً وإنما يجب أن توجد هيئة حاكمة تكون مهمتها الإشراف على المكان ومن يقيمون عليه، وتمارس الحكومة سلطتها وسيادتها باسم الدولة بحيث تصبح قادرة على إلزام الأفراد باحترام قوانينها وتحافظ على وجودها وتمارس وظائفها لتحقيق أهدافها.
ما حدث لدينا أن الدولة نشأت نتيجة الصراعات وعلاقات القوة التي تسعى دائماً لإخضاع الضعيف لصالح القوي، ترتب من هذه النظرية ظهور قيادات مستبدة، ساهمت في إيجاد عن عناصر متحكمة الذي مهد لقيام الدولة التي جعلت من القوة العسكرية والأمنية السبب الوحيد لنشأة الدولة، وتغافلت عن دور القوة الاقتصادية والثقافية والسياسية، وتعتبر نفسها قوة ثورية مشروعة لأنها تفرض على الشعب قسراً، "ما تعتقد أنه يصب في مصلحته" وبأن وجودها واستمراريتها بالحكم "مؤقتة " تختفي باختفاء السلطة الحاكمة، ولا تخجل من نفسها ولا من شعوبها حين تدعي بأنها دولة يحكمها الدستور القائم على مبادئ الديمقراطية والعدالة، وتخدع الناس عن طريق نشر الأوهام بالاستعانة بالدين من ناحية والفكر القومي من ناحية ثانية من أنه لولا وجود الحزب لكانت طبقة العمال والفلاحين انتهت، أو إقناعهم بأن لديهم قضية محددة ويجب الموت من أجلها حتى ولو كانت القضية وهمية، مثل الوحدة العربية والحرية والاشتراكية الذي دفع الشعب السوري ثمنها منذ سبعين عاماً ولم ينل شيئاً إلا الجوع والخوف والقتل والتعذيب وجعل الشعب مشتتاً باستمرار حول وجود أعداء شرسين يتربصون بالدولة والدين والمجتمع.
فإشعار الناس بالخوف دائماً من الأعداء الافتراضيين يجعلهم يتمسكون بالحزب وتعظيم الدولة وأسياد الوطن للحفاظ على حياتهم ومستقبلهم في سوريا فقد خدعت الدولة الشعب بالحرية والديمقراطية والاشتراكية، فلما جاؤوا إلى السلطة بالسلاح جلبوا الخراب والدمار إليها ونهبوا خيراتها ولا يزالون ينهبون إلى اليوم… وما لم يستطيعوا نهبه باعوه للآخرين.
ثم جاءت الثورة ولم تستمر نقية إلا بضعة أشهر حتى ركبتها معارضة تعمل لصالح مُشغّليها الإقليميين والدوليين والاستثمار على حساب سوريا وشعبها وربطوا مصيرنا بمصير هؤلاء واستغلّونا واستغلّوا شعبنا الطيب جغرافيا وعقائدياً ودينياً ومالياً، إنها لعبة السياسيين, وأدواتها الرخيصة.
إن الحقيقة سوف تجذب العقاب لذلك تعلم الناس الكذب
كان يقول لي عمي إن ضباطاً كانوا يزورونه دائماً ولا يخاف منهم ولا يطلب منهم شيئاً بينما إذا طرق بابه شرطي ومعه ورقه فإن عظامه ترتجف
وكيف أن الأمراء في بلدتنا كيف كانوا يحترمون الشرطة ويحتقرون الشعب
وبقي هذا طوال الزمن وتواجدت فئة من الناس بدلًا من الأمراء تحترم المسؤولين في الدولةو الحزب وتحتقر الشعب والفلاح والعامل والإنسان الشريف في وظيفته وفي محيطة المجتمعي.
وصار المسؤول منهم يوصي مدير مكتبه بعدم السماح بالدخول لأي مراجع إذا كان من بلدته وصرنا نتحسر على العهد الطوطمي عندما نرى الآخرين يذهبون إلى أوربا وأمريكا والاتحاد السوفياتي ويعودون أو لا يعودون ولديهم الشهادات والنساء الشقراوات ونحن نبقى على شهاداتنا التي نلناها على طوابير الخبز والغاز وطوابير المؤسسات الاستهلاكية لشراء البصل الاخضر والخضار المجففة المتبقية من تبرعات منظمة الأغذية العالمي ومستقبلنا أصبح مرتهنًا بعبوة ناسفة أو تقرير أمني.
وكنا نرى سيارات التبغ المهرب "الشبح" تشق شوارع المدن دون تفتيش، وبينما الدهماء يقفون عند الحواجز للتفتيش وكنا نرى من تأخذ الدولة بيده عن طريق أمه أو أخته أو زوجته أو نقود جده كنا نراه يصل إلى أي مكان وأن من لا تأخذ الدولة بيده يبقى محتقراً ويركع لأي مسؤول.
وصرنا نرى أن ما يقدم للنساء في أماكن اللهو وما يقدم للمتعة والبغاء كل ذلك عن طريق رفع الأسعار واختراع مبدأ الرشوة والإتاوات وثمن فنجان القهوة وكل ذلك يشكل أعباء تلقى على ظهور الفقراء وذوي الدخل المحدود جداً وعلى ظهور ذوي الحاجات ومن أهالي السجناء ومن السجناء أيضاً.
وصرنا نرى الذين ضحكت لهم الدولة يستطيعون فعل أي شيء وشراء أي شيء شراء المساكن والحدائق والبساتين والأبنية داخل الوطن وخارجه وصرنا نرى أن الوطن ليس لنا فنحن لا نستطيع شراء المساكن بل صرنا نبيع مساكننا لنشتري بها جوازات سفر لنغرق في المياه الدافئة.
إن الفقراء لا يستطيعون الجلوس خلف طاولات القمار ولا خلف طاولات الطعام ولا خلف طاولات النساء وإنما خلف طاولات التحقيق.
فيا أيها المحرومون من الطعام ومن الحرية أعيدوا حساباتكم أعيدوا قراءة طالعكم وقراءة الأدب وتفرجوا على الوطن ولكن لا تتغنوا بأنهاره فقد جفت ولا بأشجاره فقد يبست ولا بأبنيته فقد دمرت ولا بشوارعه فقد اهترأت ولا بخبزه فقد اختفى وبقيت لكم الزلازل والأعاصير والحواجز الثابتة والطائرة وأوراق النقد التي لا تشتري شيئاً.
إن البحث عن وطن وأحلام مسروقة وكرامة منتهكة هي الدوافع التي أشعلت ثورتنا.
ولكن في ظلّ من قاد الثورة نحو الخراب والعبث, وصمت العالم, ضاع الحلم وضاع الوطن وضاعت الكرامة وأصبح السوريون يعيشون الضياع بكل أشكاله وأبعاده. سياسي وأمني وثقافي ونفسي واجتماعي إلا الديني والطائفي والمناطقي والعشائري فقد برز حاضراً ومتفوقاً ومتصدراً التعريف عن النفس.
ولكن ثورتنا مستمرة ولن تنتهي طالما هناك إرادة للحياة الكريمة فأما الزبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض
صناعة الخوف والترهيب
عندما يصبح التخويف حجة للحفاظ على المصالح القومية، وتحقيق الأمن المجتمعي.
كان هناك عشرات الاتجاهات في سوريا ولكن بالنسبة للنظام كان ينظر لهم على حد سواء
في كل عام يطرحون شعارات جديدة
وفي كل عام كانت سوريا تزداد سوءاً
كل شيء ملك لرئيس الدولة وحاشيته ومن يريد حصته من الوطن عليه أن يدفع من ماله أو كرامته هذه الطريقة التي تقاوم بها التيار الوطني
استمر هذا النظام عشرات السنوات وبقي هذا النظام حياً بالخوف، ورؤية الأعمال الوحشية. أحدهم يطالب بحقه دون أن يدفع تقطع يده، يهين هيبة الدولة يقطع لسانه, ويقف أمام الرئيس يقطع رأسه ويوضع على عامود ويرفع عالياً حتى يراه كل من في الشارع وهذا ما يحفظ استمرارية النظام.
ولكن هذا التخويف ترافق مع القتل السياسي والإفساد الوظيفي في الدولة والمجتمع عندما تشكلت ما يعرف بالجبهة الوطنية التقدمية عام 1972 وهي مجموعة أحزاب قومية واشتراكية وشيوعية بقيادة حزب البعث وكانت أهم إنجازاتها تكريس حزب البعث كحزب قائد للدولة والمجتمع والالتفاف نحو قائد الحزب هو التفاف حول الوطن.
وقد استطاع حافظ الأسد شراء الأمناء العامين لتلك الأحزاب ورؤساء المنظمات المنضوية تحتها وشراء أعضاء القيادة القطرية وأعضاء القيادة القومية لحزب البعث وشراء مديري الشرطة في المحافظات ومديري المناطق والنواحي وشراء المدراء العامين ورؤساء الأقسام وشراء رؤساء الدوائر والشعب وتبين أن الرسالة العربية الخالدة ليست الحضارة والقيم والرقي لنشرها بين البشر بل من يريد الاستمرار بالحكم عليه أن يقتل وإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب, وإن لم تستطع أن تقتل الجميع يمكنك أن تستأجر نصف السكان لقتل النصف الآخر.
التعليقات (55)