"طفلة لوّثت فستانها"... أبواب إلى غرف الذكريات السورية

"طفلة لوّثت فستانها"... أبواب إلى غرف الذكريات السورية

"تركتْ وطنها إلا أنه لم يتركها" تتضح الجملة السابقة وضوح شمس تموز في ديوان الشاعرة السورية "بشرى البشوات"، والذي حمل عنوان "طفلة لوّثت فستانها"، بشرى التي كتب النزوح عنواناً لحياتها؛ فهي ابنة الجولان المباع، وابنة الدروب المؤدية إلى النجاة، الطفلة التي لوّثت الحياة فستانها، والمرأة التي وجدت في الشعر فستاناً جديداً ناصعاً.

تبني الشاعرة من خلال ديوانها عوالم خاصة، تدخلنا إليها بوساطة أبواب تم فتحها على مصراعيها؛ لنلج غرف القصيدة، ومن تسميات الأبواب التي هي: باب الأم، باب البيت، باب الأسماء، باب الأصوات، باب الهوامش، باب الخيبة... نجد أن بشرى ارتكزت على الخاص للوصول إلى العام، أي إنها اتخذت من ذاتها وعائلتها وذكرياتها ومشاعرها، منصة تلقي من خلالها القصيدة، ليتلقاها الآخر وكأنها تخصّه، ومن المؤكد أن هذا الفعل لم يكن مقصوداً من الشاعرة، فمن خلال كلماتها تظهر السجية والفطرة الشعرية بوضوح تام، وهذا أمرٌ لا يعيبها، فقد أصابت مرتين، الأولى حين فردت مشاعرها بكل صدقٍ على بساط الشعر، والأخرى أنها نجحت في الوصول إلينا، والمثير للإعجاب أيضاً أن كل ما وصل إلينا في ديوان "طفلة لوّثت فستانها" هو تجربة أولى منشورة للشاعرة.

أنا الغريبة التي دفنها الغراب،

شرنقةٌ وكل خيوطك تلفني

غريبة وملفوفة بالتجاعيد،

بوصلة يدي محمومة

ها أنا أخونها مع الجهات،

أشكّها بالدبابيس لتصرخ نطافها

ليصعد الأولاد... والبنات

سأحيض، سأحيض يا الله 

وألد منفىً جديداً.

ومثلما في المقطع السابق، وفي لاحق الديوان، تكرر "بشرى" رحلتها إلى المنافي الجديدة، والتي تشبّهها هنا بآلام الولادة، ولادة ربما تكون على هواها، وربما لا، فهي لعبة قدر بالنسبة للشاعرة التي اقترنت بالمنفى...

ولا تغيب سهولة اللغة التي استخدمتها "بشرى" كما سلاسة التراكيب والاستعارات، فهي خالقة الصورة الشعرية التي ستصل وجدان كل متلقٍّ، إن كان نخبوياً في قراءته، وإن كان متذوقاً جديداً للقصيدة، وليس فقط هذا ما أرادته الشاعرة، بل رغبت بتغطية شاملة لكل ما مرت به في حياتها، ففي الباب ذاته، والذي حمل اسم الأم، تأخذنا "بشرى" بكاميرتها إلى ذكراها مع أمها، فتقول:

أنا لا أكذب

فقد أخبرتكم قبل الآن

أن أمي هي بائعة الحليب تحت السوق المسقوف

لها جناحان أسودان

وعندنا كلبٌ يقضي يومه لاعقاً وقته

أمي تربّي تابوتاً في ظلها

تغشّ الناس

تكيل بمكيالين

وتضيف كل نهار خيبة إلى مكيالها.

هذا الاستخدام اللطيف للرمزية، يحيلنا إلى الميل نحو السرد أو البوح الذي يعلق في حنجرة الشاعرة، وتود أن تفرغه بكل عفوية وتعقيد، وهذا تعريف آخر للشعر، فهو هدم وبناء، بساطة وتعقيد في آن واحد.
أما في باب البيت، فقد ذهبت "بشرى" نحو الرجل في حياتها، ابتداءً بالأب، عمود البيت، وليس انتهاءً عند الزوج/الحبيب، وفي هذا الباب أخلت الشاعرة مساحة واسعة للتلاعب بالمفردة، وباللغة عموماً أيضاً، فقد صعّدت لهجتها المجازية لتقارب ما ترنو إليه وما تبوح به، فتقول:

أحب البلاد التي هام فيها

والنساء اللواتي رتّبن ثيابه دون أمي.

كان لأبي قلب توقف مرة

حزّ الجرّاح الصدر عشرين سنتيمتراً على الأقل

لكن أبي لم يمت

كان أبي حاداً كشفرة الحلاقة

سعيداً كطير

نائياً كجزيرة بعيدة

حراً كعاصفة

مع أنه لم يمت.

وهكذا تتناول في باب الأسماء جزءاً من عائلتها، وهم الأولاد، ثم تتناوب على هذا النوع من البوح في بقية الأبواب، ولا تغفل عن الحرب التي لا تترك لها فرصة لتضع أحمر الشفاه، الحرب التي تغسل فيها الشاعرة وجهها من غبار أحذية الجنود، الحرب التي دفعتها نحو منفًى آخر تاركة خلفها كل الذكريات، وعلى الرغم من ذلك، فقد جاء ديوانها كأبواب مشرعة على الذكريات، وفيما وصلت "بشرى" إلى مفاتيح تلك الأبواب، أبت إلا أن تهدينا إياها، مُعلَّقة بقلادة المفردات:

لقد أجهضنا الكثير من الأجنّة

منذ أن بدأت الحرب،

في الخيام والبحر

في المياه التي سالت إلى النهر

ونحن نعبر البلاد إلى البلاد،

في قوارب الموت.

وها هي على بعد بحر وبلاد، ما زالت تنشغل بالهم السوري عموماً، تغفو على رحلة في قوارب الموت، وتصحو على صوت قذيفة تهشم جسد حلم مضى، وكما معظم من حطّ بهم الترحال في بلاد آمنة، تأبى "بشرى البشوات" إلا أن ترثي البلاد بقصيدة، ثم تصلي على جثتها شعراً.

وأخيراً، ربما يحتاج ديوان "طفلة لوّثت فستانها" ما هو أكثر من مقال لإيفائه مقصده، لكن وبأبسط المفردات، يشكّل الديوان أولاً سردية سورية بامتياز، سردية تضع اليد على الجرح النازف، وثانياً: هي حكاية خاصة عامة في آن، حكاية أمهاتنا وآبائنا، حكاية أولادنا وما عانيناه طوال فترة الحرب، وأخيراً هو تدوينة للذكرى وللسيرة بخُطا شاعرية لطيفة، توجز بالتصوير وتسترسل في الوصف، تأخذنا بعيداً في الزمن ثم تعيدنا إلى تخوم الجرح، تفيض حساسية، ولا تتوانى عن إشعارنا بالألم الذي نعانيه من دون تجميل وتكلف.

من أجواء الديوان:

أنا بكر أمي 

سجادة صلاتها بعد الثلاثين،

أنا أولى الست

أكبرهن وأوجعهن

اليد التي لوّحت لهن متأخرةً

أربعين شتاءً.

عن الكتاب والكاتب:

"طفلة لوّثت فستانها" صادر عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع (سوريا)

بشرى البشوات: شاعرة وكاتبة سورية مقيمة في ألمانية، من مواليد القنيطرة، درست الإعلام في جامعة دمشق، تكتب في العديد من الصحف والمجلات السورية والعربية، بالإضافة إلى كونها محررة في مجلة طلعنا على الحرية.

حاصلة على جائزة عبد الباسط الصوفي في القصة القصيرة 2005، كما إنها حاصلة أيضاً على جائزة عبد السلام العجيلي في القصة القصيرة 2008.

لها مشاركات في مجموعات شعرية كـ "متحف الأنقاض" و "نخّال الخطا".

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات