في بقعة جرداء شمال شرق درعا، تقف شاحنة محملة ببراميل محروقات بجانب حفرة عميقة يُسكب داخلها الوقود وفي الخلفية سيارتان ودراجة نارية وعدد من عناصر ميليشيا أسد يستعدون لحرق أشخاص يرتدون الزي العسكري بينهم ضابط أغلب الظن أنهم كانوا يعتزمون الانشقاق بأسلحتهم.
يُعاد ذلك المشهد في تسجيل آخر لكن بشكل أشد قسوة، حيث أُلقيت جثث أشخاص يرتدون ملابس مدنية داخل حفرة مختلفة قبل أن يضرم النار داخلها، فيما يوثق تسجيل ثالث ورابع جثثاً قد أكلتها النيران بعد انطفائها.
في غمرة عمليات القمع الممنهج عقب اندلاع الثورة في عام 2011، اعتقلت ميليشيات أسد وأجهزته الأمنية مئات آلاف السوريين، تحوّل عشرات مع مرور الزمن إلى مختفين قسرياً بعد أن فقد ذووهم أي وسيلة لمعرفة مصائرهم إثر توقيفهم أو اعتقالهم.
تشير أرقام الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى وجود نحو مئة ألف شخص موثقين بالاسم لا يزال مصيرهم مجهولاً بعد أن غيّبتهم أجهزة أسد الأمنية، تضاف تلك الحصيلة إلى أكثر من 15 الفاً قتلتهم تلك الأجهزة تحت التعذيب، وقد كانت صور قيصر كفيلة بالإجابة عن مصير بعضهم وحجم التعذيب الذي طالهم داخل سجون وأقبية أسد الأمنية.
لكن نمطاً آخر من السلوك الإجرامي كان حاضراً بشكل أكبر في المناطق الساخنة من شأنه تفسير حالات الاختفاء القسري تلك، حيث كانت حواجز ميليشيا الأسد وأجهزته الأمنية تعتقل أبناء تلك المناطق وتقوم بتصفيتهم ميدانياً دون إرسالهم إلى السجون مستغلة الصلاحيات الواسعة الممنوحة لها.
تلك الأفعال ظلت رهينة تقارير مكتوبة وشهادات أدلى بها ناجون في بعض الأحيان اشتروا أرواحهم بالمال وإفادات شفوية لذوي العديد من ضحايا في أحيان أخرى، إلا أن تسجيلات مجازر التضامن واللجاة التي خرجت إلى العلن في العامين الماضيين وثقت بالصوت والصورة ذلك النهج القائم على قتل المعتقلين وحرق وإخفاء جثثهم في حفر بباطن الأرض لمحو أي أثر لتلك الجرائم وبالتالي إنكار المسؤولية عنها.
وفيما تحاول حكومة ميليشيات أسد طي صفحة المساءلة عن جرائم ميليشياتها بحق السوريين إلى ما لا نهاية مستغلة المتغيرات السياسية سواء الإقليمية أو الدولية، وترفض جامعة "أمستردام" عرض 26 مقطعاً بحوزتها لمجزرة التضامن، ترفع أورينت نت الستار عن تسجيلات وصور غاية في القسوة لعمليات حرق جثث معتقلين في منطقة اللجاة إضافة إلى صور الجناة الذين أقدموا على تلك الأفعال البربرية.
قصة تلك التسجيلات وكنز ثمين
بداية قصة تلك التسجيلات الدامية تعود في الزمن لأكثر من 10 أعوام وبالتحديد أواخر العام 2012 حينما أبلغ أحد الرعاة عناصر فصيل أمهات المؤمنين المعارض أنه شاهد مراراً مجموعات من ميليشيا أسد تحرق جثث معتقلين في بادية الواقعة بين ريف دمشق الجنوبي وريف درعا الشمالي الشرقي، وكدليل على صدقه قدم لهم تسجيلات التقطها بنفسه لجثث مقيدة الأيدي ومحروقة وبناء على ذلك، كمن الفصيل للمجموعة على مدى أيام قبل أن يتمكن منها مطلع العام 2013 على طريق الشقرانية ويقتل أفرادها.
مقاطع صورها الراعي pic.twitter.com/n3SQ9irw6V
— YASEEN (@YASEEN93893266) June 20, 2023
وبعد تمكن عناصر الفصيل المعارض من قتل أفراد المجموعة وأخذ ما كان بحوزتهم من هواتف وأجهزة محمولة، وصل أحد تلك الأجهزة إلى مصدر أورينت الذي قام بتنصيب برنامج لاستعادة الملفات المحذوفة واسترد عشرات الصور والفيديوهات التي كان قد التقطها بغرض التوثيق وبأوامر عليا، مساعد بمخابرات أسد العسكرية يدعى محمد طاهر إبراهيم المنحدر من قرية الدنيبة جنوب مدينة سلمية شرق حماة.
المساعد محمد طاهر إبراهيم مع بشار الأسد
التسجيلات والصور المستعادة كشفت النقاب عن عشرات الضحايا تمت تصفيتهم بعد اعتقالهم خلال مداهمات أو فارقوا الحياة خلال مواجهات مسلحة بين فصائل المعارضة وميليشيات أسد.
وبالمجمل يمكن تقسيم ما حصلت عليه أورينت إلى 3 مجموعات، يوثق أبرزها عمليات الحرق، وقسم آخر يظهر ارتكابهم أعمالاً وحشية بحق جثث ضحايا فارقوا الحياة، ويستعرض في القسم الثالث شبيحة أسد وأرتال عملياتهم وصورهم في بعض الأحيان، كما حصلت أورينت على تسجيلات للكمين الذي نفذه أفراد فصيل أمهات المؤمنين وقد حصل عليه مصدر أورينت من أحد أفراد الفصيل في وقت لاحق بعد اكتشافه لمحتوى الجهاز المحمول.
مقاطع الحرق والتنكيل بالضحايا
وتتألف المجموعة الأولى التي توثق عمليات إحراق الضحايا من 6 تسجيلات يرصد أحدها سير مجموعة من سيارات وآليات القتلة إلى منطقة نائية تمهيداً لتنفيذ الجريمة.
ويظهر تسجيل آخر مجموعة مؤلفة من نحو 15 عنصراً منشقاً على ما يبدو بينهم ضابط يتم اقتيادهم مقيدين إلى جوار حفرة عميقة تملأ بالوقود وسط عبارت يطلقها أحد الشبيحة تؤكد أن مصيرهم الموت.
وتوثق التسجيلات الأربعة الباقية حادثتي إحراق مختلفتين، يتم في إحدهما إلقاء جثث أشخاص تم تصفيتهم مسبقاً في حفرة ومن ثم سكب الوقود فوقهم.
وفي الحادثة الثانية يوثق التسجيلان اشتعال النيران في جثث عدد من الضحايا لكن في حفرة مختلفة وتوقيت مختلف، يتضح ذلك من طبيعة الأرض والغطاء النباتي المحيط بها.
وتتضمن المجموعة الثانية مقاطع وصوراً لجثامين ضحايا قُتلوا على يد تلك الميليشيات وعمليات نقلهم في بعض الأحيان بواسطة شاحنات نقل وتشفٍّ من الجثامين وكيل التشائم لهم، وفي أحد التسجيلات يسمع صوت أحدهم يطلب الساطور لقطع رؤوس القتلى على ما يبدو.
بينما تظهر المجموعة الثالثة من الفيديوهات التي التقطتها عدسة محمد طاهر إبراهيم تحركات المجموعة الأمنية ومرافقتها لأرتال لميليشيا أسد بالمنطقة تمهيداً لاقتحام المدن والبلدات الثائرة.
كما توثق تلك التسجيلات وجوه العديد من العناصر والضباط سواء من الميليشيات العسكرية أو الأمنية.
الهرم التراتبي للجناة
وبالحديث عن تبعية الجناة وهويتهم، وثق المركز السوري للعدالة والمساءلة في تحقيق سابق أن الكمين الذي نفذه فصيل أمهات المؤمنين أفضى إلى مقتل مجموعة مختلطة بين مخابرات وميليشيا أسد ضمّت الرائد في المخابرات العسكرية، فادي يوسف القوزي، والمقدم في ميليشيا أسد، إسماعيل محمود إسماعيل والمساعد أول بالمخابرات العسكرية محمد طاهر إبراهيم والرقيب أول شادي علي تامر، والرقيب حسام مروان حمودة والمساعد أول محمد يوسف وطفي والرقيب سامر محمد السعيدي والرقيب أول أنور محمد عمار والرقيب سيف رمضان العلي والمساعد سليمان علي قاطرجي.
ومن الناحية التنظيمية، ينتمي الجناة بشكل عام لجهتين رئيسيتن أولهما مفرزة الأمن العسكري في المسمية شمال شرق درعا وهي المفرزة المعنية بالإشراف أمنياً على منطقة اللجاة بالكامل والتي كان يقودها فادي القوزي (أطلقت وزارة تربية أسد اسمه على مدرسة باللاذقية) حين مقتله بالكمين في 4 من كانون الثاني 2013.
تتبع مفرزة المسمية تراتبياً إلى فرع الأمن العسكري في درعا الذي تولى قيادته منذ العام 2011 شخص واحد فقط وهو العميد لؤي العلي، ما يشير إلى وجود علاقة خاصة تجمعه ببشار الأسد، إذ نادراً ما يبقى رئيس فرع بمنصبه لكل هذه الفترة الطويلة.
لكن في أحد التسجيلات التي بحوزة أورينت يُحيي أحد الشبيحة ميليشيا الأسد ومخابراته العسكرية والجوية بعد عودتهم وصناديق سيارتهم ممتلئة بجثث ضحايا، ما يؤكد مشاركة فرع مخابرات أسد الجوية بدرعا بالمجازر وقد كان يقوده في ذلك الحين العقيد ماجد دراس.
الجهة الثانية هي اللواء المدرع 34 الذي يقع مقره في المسمية كذلك، وكانت تتخذه الحواجز العسكرية على الطريق الدولي (دمشق-عمان) مركزاً للاعتقال، وترجح مصادر أورينت أن اللواء كان تحت قيادة العميد شوقي يوسف حامد.
يتبع اللواء 34 تنظيمياً للفرقة التاسعة وهي فرقة مدرعة يقع مقرها في الصنمين شمال درعا تولّى قيادتها لعدة سنوات اللواء أحمد يونس العقدة إثر إبعاد اللواء أحمد سليمان طلاس في بدايات الثورة، وقد كانت الفرقة مسؤولة عن إرسال الدبابات والمدرعات لمساندة عمليات اقتحام نفذتها ميليشيا أسد في الجنوب السوري، وهو ما يتضح من المجموعة الثالثة من التسجيلات التي حصلت عليها أورينت.
اللواء أحمد العقدة
وفي العام 2012 أفادت شبكات محلية بتصفية ضباط اللواء عدداً من المنشقين، مشيرة إلى أن من ضمن أبرز الأسماء التي وراء تلك المجازر العميد جمال الشامي والعقيد هشام إبراهيم والعقيد هيثم غانم والعقيد رئيف قدار.
واللافت أن اسم قدار ورد في اعترافات ضابط من اللواء 34 أسر على يد فصيل العمري في 17 من كانون الأول 2012، وقال حينها الضابط المدعو علي جمعة البكير إن اللواء قائد الوحدة كان يصدر أوامر لقدار هو قائد الكتيبة 27 والمقدم بشار الأسد (يماثل اسمه اسم رأس النظام وكانت قد تحدثت عنه مصادر محلية عام 2012) بنهب المنازل أثناء المداهمات ومن ثم هدم البيوت فوق رؤوس أصحابها.
فيما يتحدث ضابط أسير آخر يُدعى ياسين محمود أن رئيس مفرزة الأمن العسكري بالمسمية النقيب فادي مخلوف (يبدو أنه لقب آخر لعائلة قوزي وأن القوزي قد ترفع لرتبة رائد قبل مقتله بأيام فقط) كان يتردد على اللواء 34 لتصفية الجنود الذين يحاولون الانشقاق ومعتقلين مدنيين ونساء تم اغتصابهن، حيث يتم دفنهم في حقل الرمي المصغر داخل اللواء.
وعلى مر السنوات الاثني عشر الماضية، ارتكبت ميليشيا أسد وأجهزته الأمنية مئات المجازر ضد المدن والبلدات الثائرة، ما أدى لمقتل مئات الآلاف وسط تخاذل دولي عن مساءلة تلك الميليشيات عن جرائمها المروعة.
سليمان قاطرجي
صور عثر عليها في الحاسب المحمول
التعليقات (2)