"وجوه تملأ ساعة المحطة" وثيقة شعرية تؤرّخ المعاناة السورية

"وجوه تملأ ساعة المحطة" وثيقة شعرية تؤرّخ المعاناة السورية

صدرت مؤخراً عن دار ابن رشد، المجموعة الشعرية الثالثة للشاعر السوري "عبد الله الحريري" والمعنونة بـــ "وجوه تملأ ساعة المحطة"، والتي أوحت من خلال عنوانها بداية، ومضمونها لاحقاً، أنها تحاكي حالة الاغتراب والتنقل بين محطات الحياة. وهو ما يطرحه الحريري بالإضافة إلى موضوعات شتى، منها: علاقاته بالمدن وبالبيئة المحيطة، سواء تلك التي هُجّر منها مجبراً، أو التي حل فيها نازحاً ولاجئاً بملء إرادته. كما قدّم آراءه في الحب والأنثى، ومعاصرته للحرب السورية، من خلال تصوير مشاهداته ومعايشاته في أكثر من نص، إلى جانب نصوص نعى بها أصدقاء الحصار في مخيم اليرموك، والذين سلبهم اللجوء حياتهم. 

تسقط قنابل الكيمياء

تكتظّ غرف الغاز

تختنق مخابئ شاحنات التّهريب

تضغط رُكبة رَجل الشّرطة البيضاء..

الحناجر محشوّة بالثّارات والوصايا

لكنّها أضيق من سمّ الخِيَاط...

أطيافهم زرقاء تتعالى،

تنسلّ من بين الياقات والأكمام

لتأخذ السّماء لونها،

وتكتمل مرآة الماء؛

كالقرابين مرّوا طاهرين،

كالعار تجاهلتهم معاهدات السّلام.

وفي الطقس العام لنصوص مجموعة "وجوه تملأ ساعة المحطة" نلاحظ الاشتغال على مرحلة زمنية طويلة، تشي بتدوين تأريخي لسنوات الحرب، منذ بدايتها، حتى الوصول إلى التكيف مع ظروف البيئات الجديدة التي التجأ إليها الإنسان السوري، على الرغم من الاعتباط في ترتيب التسلسل الزمني للنصوص المقدمة. فحيناً يأتي الحريري على ذكر نص ملطخ بالدماء، وأحياناً يمرر أمامنا مشاهد المعاناة التي تلت الحرب، تارة يسترجع ذكرى علقت في تيار ذهنه، ويكوّن لنا مشهداً من حاضره الذي لا يقل معاناة عما مضى تارة أخرى. 

للبيوت رائحة الموت

في لهاث الجنود وحرقة البارود

فانبشي في الرّكام عن سيرة الجدران

ومعقل أسرارها

عن طعام الحنين 

أيّتها الجراء الّتي تعوي كلّ ليلٍ

بحثاً عن أوكارها.

أخذ الحريري على عاتقه عرض رؤية شعرية عن المرحلة السورية، من دون بهرجات شعرية ولغوية توحي بانفصاله عن الواقع، بل أظهر لنا التصاقه بهذا الواقع المتردي على الرغم من البعد الزمني والجغرافي عن بؤرة الحدث، وما يتبعه من تأثير على القريحة الأدبية، ومع ذلك فإن المجموعة تميزت ببناء الجملة الشعرية، وبتكثيفها اللغوي والصوري؛ فلم يخلُ مقطع من دهشة، ولم تُرمَ صورة في سلة العبث. ويدل ذلك على مهارة "الحريري" في صناعة القصيدة وليس تصنّعها، وما يؤكد ذلك أيضاً التصاعد الحدثي في كل نص على حدة، وخلو النصوص من التوتر الفائض عن حاجتها.

يتحدّثون عن الحرب 

كأنّهم أبطالها

يقولون أشياء كثيرة

لا أعرفها

أنا كهل كالجبال

الأرض عشوائيّةُ القبورِ بين أصابعي

والمدن مهدّمةٌ في وجهي

أقول للحرب: كنتِ

وللشّجرة: كوني 

خيمتي وعمقي

العمق الّذي هو ذروتي

ذروتي موتي.

ومن خلال النص السابق وما يليه من بعض النصوص، تتضح رؤية الشاعر التي راح يكوّنها عن حياته بشكل خاص، وعن حياة السوري عموماً، وعن الموت الذي حضر كذروة للحياة؛ الموت الذي بلغ الثانية عشر من عمره. وإلى جانب ذلك، مرت غير مرة، وبضبابية، بهجة "الحريري" بنجاته، فعندما كتب المرثيات بأصدقائه، وأعاد شريط ذكرياته المكتظ برائحة الموت، أراد، من دون وعيه، أن يخبرنا بأنه الناجي الوحيد من المجزرة الممتدة لسنوات، إلا أنه لم يوضح أن هذه النجاة اكتملت، فقد سعى شاعرنا إلى خلق عالم برزخي، مادته فيه هي الانتظار، وهنا يعيدنا إلى عنوانه الرئيس، فليست هذه المدن أو الزمان الحالي سوى محطات، حلّ عليها إلى حين يصل وجهته التي لم تتضح هي أيضاً، فربما تكون هذه الوجهة على غير المعتاد، ليست مكاناً، ربما تكون أنثى يلجأ إليها، وربما تكون عودة إلى وطن خالٍ من القتلة والدماء.

أحبّيني مرّة واحدة في اليوم: 

تحشو ساعة الحائط بالهرولة 

تتدلّى من الثّريّات كإله صغير

. . .

أحبّيني مرّة واحدة في الأسبوع:

تنفخ الغبار عن قشرة القلب 

تعدّ الخطايا على أصابعها

تنعش يوم الصّلاة.

وفي حين يأخذ الانطباع الأولي للنصوص، بعداً غارقاً في الذاتية، إلا أن التمعن فيها يُظهر انشغال كاتبها بتكوين مرآة، تعكس خوالج القارئ عموماً، فمادة "الحريري" ليست مقدمة لشريك المعاناة فقط، على الرغم من ظهورها الانطباعي في هذا المظهر، بل هي مادة متجهة للكل، وهذا ما يؤكده اتكاء النصوص على جوانب فنية، واستغراق كاتبها بالتخيل العميق في بعض نصوصه، حيث رسم خطين متوازيين بين ما هو واقعي ومتخيل، وحتى هذا الأخير لم يجنح عن قواعد الأول.

ثمّة خرافٌ ترعى حشيش القماش،

وصغارٌ يلعبون في رغوة اللّون؛

أعطاهم الرّسّام مفتاح باب اللّوحة الخلفيّ.

لم أكن زائداً عن مهرجان الطّفولة

لكنّ شهوة التّراب شدّتني

فغرستُ فيه قدميَّ، 

وانتظرتُ

حتّى صارتا سَروتين إلى جوار البيت

حيث لا أب أو أمّ 

في انتظار عودتي.

وبينما تستغرق مثل هذه الموضوعات في الشعر جانباً سطحياً ميالاً للسرد، تميزت مجموعة الشاعر "عبد الله الحريري" بعمقها التكويني واللغوي وحتى الدرامي، ونستطيع أن نركنها تحت صنف المونودراما الشعرية، في وصفها للمكان والذكريات والأحداث، مونودراما انحازت للهمّ السوري بكل واقعيته وتجرده، وقد تضيف إلى مجموع المنجز الأدبي السوري في هذه المرحلة المعتمة ضوءاً نحو المستقبل الذي ما زال "الحريري" يتأمل فيه حياة. 

من أجواء المجموعة:

نحن ملوك القاع

نشتهي سيجارة محشوّة بالنّسيان

تملأنا العابرات من النّساء، والنّساء

يغري الشّاهقين البريقُ،

ويشدّنا العماء.

. . .

من يقرأ حجر الوقت

إلا ضليع المسافات؟

أيّها الموت الذي على هيئة موت

ما زال في القلب متّسع للحياة.

عبد الله الحريري: طبيب وشاعر سوري من مواليد محافظة درعا.

صدر له في الشعر:

الشهيق إلى الرئة الحرام 2016 

لا تنسَ قلبك حافياً 2019 

يكتب في عدد من الصحف والمنصات والدوريات العربية.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات