يقول "إريك هوفر": "الدعاية السياسية لا تخدع الناس، لكنها تساعدهم على خداع أنفسهم". ويعرف "بول لانيبارجر" الدعاية على أنها استعمال إحدى وسائل البث والنشر استعمالاً مقصوداً من أجل التأثير على عقول ومشاعر فئة معينة من الناس، ويكون ذلك لتحقيق غرض معين. وتعد الدعاية الطريقة التي تستخدم للتأثير على آراء الجماهير، ومعتقداتهم حتى يتجهوا نحو نظام معين فهي تعمل على تهيئة الأفراد نفسياً لتقبل ذلك الاتجاه.
تتخذ الدعاية عدة أشكال ويصنفها الباحثون والمختصون في عدة أصناف، وهناك نوع من الدعاية يسمى بالدعاية السوداء وتعرف أيضاً بالدعاية المستورة؛ إذ لا تقوم بتوضيح مصدرها. وهذا النوع من الدعاية ينمو بداخل المجتمع بصورة سرية حتى تتمكن من تحقيق هدفها، كما إنه خطير جداً، وذلك لأنه سبب في إثارة الإشاعات والأكاذيب.
قد لا تنطبق مواصفات الدعاية السوداء تماماً على تلك الدعاية القائلة بأن تركيا ستوسع مناطق سيطرتها لتشمل مدينة حلب، لكنها تتقاطع معها في كونها مصدراً للإشاعات الكاذبة والأخبار المختلقة، وربما مصدراً لبعض الأوهام، فما إن انتهت الانتخابات الرئاسية التركية والتي أظهرت نتائجها فوز الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان"، وقبل أن يؤدي الرئيس اليمين الدستورية حتى بدأت بعض وسائل الإعلام السورية بنشر أخبار توحي بأن سيطرة القوات التركية على محافظة حلب أصبحت قاب قوسين أو أدنى.
أهم هذه الأخبار ذلك الذي جاء فيه: "عصابات الأسد تقوم بتفكيك أبراج الإنترنت في بلدات: مسقان، معرستة الخان، بيانون، تلجبين، وحردتنين شمالي حلب دون معرفة الأسباب. بالطبع يستطيع أي إنسان مهما انخفض مستوى إدراكه أن يعرف الأسباب بكل سهولة؛ فهي عملية إخلاء استباقاً لتسليم محافظة حلب للقوات التركية.
مرة أخرى لا بد من تكرار قول "إريك هوفر": "الدعاية السياسية لا تخدع الناس، لكنها تساعدهم على خداع أنفسهم". إذ تبدو هذه المقولة غاية في الدقة، فالناس في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام أسد، أولئك الذين يكاد لا يمر يوم دون سماعهم أخباراً وإشاعات تثير المخاوف والقلق لديهم، أولئك ذاتهم يصدقون هذا النوع من الدعايات (السيطرة على حلب)، أو أنهم بالأصح يخدعون أنفسهم، لأنه من المفترض أن يكون الجميع على يقين أن محاولة السيطرة على محافظة حلب يحتاج لمعجزة، أو لنقل يحتاج لحرب إقليمية كبرى غير مضمونة النتائج.
الخبر الآخر: القوات الروسية تخلي مواقعها في تل رفعت. وهو خبر رغم ترجيح كونه مختلقاً، أو مقروءاً بطريقة خاطئة؛ فهو يبدو غير موغل في الخيال؛ ذلك أن فكرة سيطرة تركيا على مناطق أخرى داخل الأراضي السورية فكرة مطروحة، والأمر مرهون بكون هذه المناطق خارجة عن سيطرة النظام، لأن القضية في هذه الحالة تخضع لاعتبارات أخرى وتحكمها قوانين من نوع آخر. رغم ذلك، فلا المؤشرات ولا التوقيت يوحي بقرب قيام تركيا بهذه الخطوة.
من جهة أخرى، لا بد لأي توسع لمناطق السيطرة للقوات التركية – حتى وإن كان ضمن مناطق خارجة عن سيطرة النظام – أن يمر عبر تفاهمات، إما مع الجانب الروسي، وإما مع الجانب الأمريكي، أو مع الجهتين معاً. وهو ما يعني وجود مساومات ومقايضات سوف تحصل، والمقايضات ليست بالضرورة أرض مقابل أرض، بل ربما أرض مقابل نوع من النفوذ، بمعنى إن أي تغير في خارطة السيطرة لن يكون فأل خير في كل الأحوال.
يقول الباحث فاروق محمد رضوان: "إن خداعك لنفسك يدمر حياتك من خلال منعك من الحصول على اتصال مع مشاكلك الحقيقة". وهنا بيت القصيد، فتقبل السوريين لدعايات يعتبر تحولها إلى واقع من المستحيلات؛ هو نوع من أنواع خداع الذات الذي يجعل المجتمع ممعناً بالاتكالية والهروب من مواجهة الواقع، والواقع يقول إن القضية السورية مازالت بتراجع مستمر، وأن السياق الطبيعي للأحداث ينذر بالخطر.
لقد أصبح عجز السوريين عن العمل معاً وعن الانتظام ضمن مؤسسات تعطي للمجتمع شكل المجتمع المنظم القادر على تحمل مسؤولياته مصدر قلق لكل من يفكر بدعم القضية السورية، وأصبح هذا العجز مصدر سخرية من قبل نظام أسد وأتباعه، ومصدر اطمئنان لهم.
أخيراً، عندما يُقال: السوريون؛ فالقصد هو النخب السورية التي تقود المشهد. تماما كقولنا الفرنسيون أو الأمريكيون، فلا اختلاف حول العالم بمستوى وعي الشعوب أو نجاحها؛ لأن الشعوب تنجح بنخبها وتفشل بهم، وتصبح عرضة لليأس والاتكالية والأوهام مادامت نخبها غير مكترثة بما يسيطر عليها.
التعليقات (5)