"كدمات".. محاولة لترميم الخراب في عالم الشاعر "وفائي ليلا"

"كدمات".. محاولة لترميم الخراب في عالم الشاعر "وفائي ليلا"

من بين مسام الشعر، طالما تسربت قصيدة الشاعر السوري وفائي ليلا، بسلاسة وعذوبة وبساطة كالماء... إذ ظلت متدفقة من ينبوعها، على طول تجربة ذلك الشاعر الغزير نتاجاً وموهبة... وبعد أن سُجل في رصيده ست مجموعات نثرية، ها هو ينثر مجموعته السابعة المعنونة بـ "كدمات"، حيث طُرحت كمرحلة متقدمة من تجربة "وفائي" على الرغم من اتكائها على الذكرى في بعض المواضع وتمركزها في الفضاء الذي طالما تميز فيه.

تدور "كدمات" حول عالم الشاعر بشكل عام، دورة غير منتظمة، فحيناً يلقم "وفائي" قارئه، همومه التي التصقت فيه منذ الصغر، وأحياناً يواظب على سرد يوميات وأحداث أسست لنمط حياة يشوبه القلق الذي أقام عليه بنيان نصوصه؛ فنراه تارة يظهر بشكل مباشر وصادم، وبشكل مستتر تارة أخرى.

سعيد بحياتي

أتابع نشرات الأخبار

الحروب التي تُنسيني

كهولتي التي تهوي 

نحو حتمي التجاعيد

يشغلني الخبز الذي تصنعه النسوة 

من طمث أوجاعهن

وأراقب بشغف

بمنظار ليلي 

مستقبلي القلوي

يتسكع مخموراً 

في طرق جانبية.

  وكما هو ملاحظ، يقترب "وفائي" بخطا الواثق، إلى النص النثري، أكثر من اقترابه إلى قصيدة النثر، فاسترساله الواضح في بناء النص بشكل عام، والجملة على وجه الخصوص، يدخله مساحة السرد، والسرد القصصي أيضاً. وكثيراً ما يتماهى مع الوصف الدرامي السينمائي لخوالجه، فهو كما يقول عن نفسه؛ بأنه يعيش فيلماً سينمائياً وليس في عالمنا الحقيقي، هو النجم والكومبارس والممثل الفاشل، هو العاقل الذي احترف تأدية دوره بمهارة والمجنون الذي سلبه الشعر لبّه... وفي وصفه للتحقيق معه عندما حل لاجئاً على دولة من دول العالم الأول كما يسميها، تظهر براعة "وفائي" الدرامية، حيث يصور مشاهد التحقيق والحوارات بأسلوب تصاعدي شيق، ثم ينهيها بتعرية إحدى الحقائق التي تتسم بها تلك الدول:

ماذا يعني أنك تعمل بالمسرح

ترقص أو تهذي أو تتعرى

هذا الأمر لا يعنينا

ماذا يعني أنك تكتب الشعر

أو تحب السينما

وتعيّرنا بأننا عالم أول

وأننا لا نقدّر ذلك

نحن نريد عامل "ماكدونالدز" يا سيد

عامل ماكدونالدز

و... فقط.

عالم موازٍ على أنقاض العالم:

وكونه انطلق غالباً من أنقاض عالمه، بالإضافة لإظهاره علاقاته المعقدة بمحيطه، إن كان في الماضي أو الحاضر... واستعادته تلك المشاعر المعقدة مع والده، والدته، الأنثى، أصدقائه، الحب، والذي رآه يتيماً، عارياً، مرتجفاً، مترفاً، والذي لم يجربه مطلقاً؛ بحسب قوله. ومن خلال ما سبق، حاول "وفائي" بناء عالم موازٍ، يخضع لقوانينه ورغباته، عالم قائم على التماهي مع الشعر ولا شيء غيره.

العالم!

كان شيئاً غامضاً ورهيباً

كنت أستبعده،

حين اعترض طريقي

أطلقت عليه الرصاص فوراً

مات على الفور...   

الافتراض يثأر من الواقع ويرمم الكدمات:

وكما ظهرت محاولات "وفائي" للهروب من الواقع في ما سبق، يجد لنفسه أخيراً، عالماً آخر يتربع سيداً على عرشه، ألا وهو العالم الافتراضي، فهنا يكون الشاعر نجماً قضى عمراً من الإهمال، يستعيد حقه بضغطة زر، يحتفل، يلج العالم، يحصل على الجوائز والتكريمات، يحب، يكره، وأخيراً يثأر لحياته السابقة، ويرمم ما أصابها من عطب وكدمات..

الفلاتر تخفف الوهج

وفرص التعديل قائمة

ومثل صالون تجميل شره

كل الاحتمالات متوفرة

أطباء التجميل مستعدون

والخيارات تطرح أكثر من بديل

كل صورة حريصة على "الفوتوجونيك"

كل التقاطة توثق المشهد

وكل وميض يقول:

كل الأكاذيب التي أحكيها كي أحتمل الواقع الرث

الصفعات التي تتالت دون رحمة

وكمّ الإهانات التي حدثت طوال الوقت...

ومثلما التزمت المجموعة بالتحليق في سماء الأنا الخاصة بوفائي، ظهر بالتوازي مع ذلك التزامه في أن يكون شريكاً للضحية وحاملاً لهموم الآخر، السوري، واللاجئ أياً كانت جنسيته، فقد شغله اللجوء والبيئة الجديدة بشكل كبير، والحرب التي خرج منها كمشروع ناجٍ. وأيضاً، تناول في أكثر من موضع، ثيمة الموت، تلك النهاية التي تؤرقه، وكيف سيكون شكل تلك النهاية...

مثل معتوه

ألتقط الصور للآخرين

أجمع ألبومات حياة لا تخصني

أوثق اهتماماتهم

لحظات التألق والانكسار

كل من أعرفهم أو ألتقيهم لمرة واحدة

أدوّن ملامحهم لديّ

أفترض أنهم يرونني

أفترض أني هناك

لا أحد يعرف لماذا لديّ ذاكرة صور هائلة لأشخاص مجهولين

بلا أسماء

عاشوا 

وماتوا

ولم يدر بهم أحد

حتى هُم...

ويظهر لنا في النص السابق، وفي كثير من النصوص، تكرار الشاعر "لالتقاط الصور" على الرغم من امتلاكه قاموساً لغوياً وفكرياً واسعاً. وإلى جانب أن في ذلك دلالة على انحيازه للصورة والسينما، فإن استخدامه المتكرر لتلك الجمل، يشي بتعلق الشاعر وعدم قدرته على التنصل من ماضيه وحاضره، رغم محاولاته العديدة في ذلك...

وأخيراً، ومما سبق، نرى بأن مجموعة "كدمات" هي محاولة شعرية لترميم خراب عالم الشاعر، مع أنها في شكلها العام تنحاز نحو قصيدة النثر الغربية المعاصرة، وأقرب ما تكون إلى نصوص مترجمة...

عن الكتاب والكاتب:

"كدمات" مجموعة نثرية صادرة عن دار رواشن للنشر في الإمارات العربية المتحدة.

جاءت في 158 صفحة من القطع المتوسط.

"وفائي ليلا"

شاعر سوري من مواليد دمشق، حيث درس فيها قبل أن ينتقل إلى مملكة البحرين ومنها إلى مملكة السويد حيث يستقر ويمارس نشاطه الأدبي.

صدر له في الشعر:

متوقفاً عن الضحك 1997 دار الفارابي، بيروت.

مغسولاً بمطر خفيف 2003 دار جفرا، دمشق.

ما ليس... أنا 2006 دار الينابيع، دمشق.

يعطي ظهره للمرآة 2009 دار الفارابي، بيروت

رصاصة فارغة... قبر مزدحم 2015 دار المتوسط، ميلانو

اسمي أربعة أرقام 2017 أمستردام

قامة قصيرة لمعطف طويل 2020 مرايا للنشر والتوزيع، الكويت

الأعمال المسرحية:

مدن الحب والخوف 2019

الأفلام:

وجوه وأسرار 2020 

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات