جاء إعلان الاتفاق السعودي الإيراني الأخير كمفاجأة من العيار الثقيل تبعاً لعوامل عديدة، كتوقيت الإعلان عنه في فترة يتقدم فيها البرنامج النووي الإيراني وترتفع مؤشرات ضربة عسكرية له؛ وتبعاً لطبيعة وسيطه العملاق الصيني الذي تموضع للمرة الأولى في أزمات المنطقة، التي لطالما شكلت مجالاً جيوسياسياً للولايات المتحدة الأمريكية، وليفتح ذلك الحدث أبواب التكهنات السياسية في محاولة استشراف مآلاته وآثاره على مشهد الشرق الأوسط وملفاته السياسية والأمنية الساخنة عموماً، وفي مقدمتها الملف السوري على وجه الخصوص.
إذ يأتي هذا الاتفاق بالتزامن مع حراك دبلوماسي مكثف في المنطقة، عنوانه "سوريا بعد كارثة الزلزال"، من أبرز تغيرات هذا الحراك كانت ملامح السلوك السعودي المغاير تجاه نظام الأسد عبر المساعدات الإنسانية والخطاب السياسي تحت عنوان "الحاجة للحوار"، الذي يصل في احتمالاته حد تنظيم زيارة هي الأولى لوزير خارجية السعودية لدمشق، مع انفتاح إقليمي عربي متزايد للدول المترددة، على نظام الأسد، وإحياء الأردن لأفكاره السابقة في مقاربته حول تقديم الحوافز وسياسة الاحتواء العربي، وصرخاته التي تعلو لتلبية احتياجاته الأمنية على الحدود، وآخرها كان بعودة نظام الأسد إلى الجامعة العربية وحضور بشار الأسد للقمة العربية في جدة، ودون إغفال لأحد أبرز عناوين هذا النشاط الدبلوماسي المتمثل باستمرار خطوات التطبيع التركي مع نظام الأسد، والذي يشهد في سياقه تحضيرات نشطة ومضطربة لإجراء ما سُمّي بلقاء الطاولة الرباعية للحوار التي تجمع دول أستانا الثلاث ونظام الأسد، بعد نجاح إيران في فرض ذاتها.
تحفز هذه التقاطعات الحاصلة في هذه الأحداث وغيرها، بوصفها أحداثاً دراماتيكية غير متوقعة أصلاً، تساؤلات مهمة عمّا قد تسفر عنه من مفاجآت جديدة، وفي هذا السياق تتسلل إلى الأذهان فكرة جديدة حول احتمالية ولادة نسخة "مطورة" من مسار أستانا بمشاركة فاعلين جدد.
بمزيد من التأمل يبدو من المهم في هذه اللحظات المفصلية في سياق الملف السوري والمشهد الإقليمي، الاستسلام لجاذبية هذا التساؤل واختبار إمكانية تحققه فعلياً، وذلك لما قد يؤدي إليه -في حال تحققه- من نتائج وتغيرات في العلاقات السياسية وفي مسار الأحداث على أرض الواقع، وهو ما سيرسم معالم القضية السورية أو يسهم بذلك بشكل كبير على الأقل كما حصل سابقاً.
يستمد هذا الاحتمال قوته من ثلاثة عوامل رئيسية جوهرية جديرة بالملاحظة، العامل الأول: ينبع من مسار أستانا ذاته، عبر ملاحظة حالة العطالة الحالية للمسار والحاجة لإحيائه أو منطقية مساعي إحيائه على الأقل، إذ إن جولات أستانا استطاعت حتى عام 2020، التأثير بشكل كبير في الملف السوري -وبغض النظر عن موقفنا من شكل وطبيعة ذلك التأثير- من خلال هندسة الواقع الميداني في رقعة لا يستهان بها من الجغرافيا السورية، والتي آلت لسقوط معظم مناطق خفض التصعيد بطبيعة الحال؛ وتوجيه مسار الحل السياسي الأممي عبر إنتاج اتفاق اللجنة الدستورية في سوتشي الروسية، والتي أصبحت الملف الوحيد النشط في جنيف خلال السنوات الماضية.
ومنذ ذلك الحين يبدو المسار معطلاً عن إنتاج المزيد من التفاهمات فعلياً، رغم انعقاد جولات عديدة آخرها في أستانا 19 مع نهاية 2022، وهو ما يجعل المسار أمام استحقاق هام تتمثل بالفعالية، وهو ما يتطلب جرعة إنعاش وعملية "ضخ دماء جديدة"، قبل أن يراكم في بيانات جولاته القادمة ما توصل إليه في فتراته الأخيرة، من تكرار لعبارات عامة نمطية من قبيل "وحدة الأراضي السورية" و"محاربة الإرهابيين والانفصاليين".
إلى جانب ذلك يبرز العامل الثاني: الذي يرتبط بطبيعة التغيرات الأخيرة في العلاقات البينية بين الدول المعنية بهكذا مسار، والتي تسمح بخطوة إضافية نحو الأمام وتهيئ الأرضية للطموح بإنتاج حلول في سوريا تلبي مصالح هذه الدول بعيداً عن الرؤية الدولية، وفي مقدمة هؤلاء اللاعبين يبرز المرشح الأهم للانضمام في هكذا سناريو وهي السعودية، إذ تشهد علاقات الأخيرة مع تركيا حالة من الود بعد فترات جفاء ومقاطعة، ولا أدل على ذلك من الزيارات الدبلوماسية المتبادلة والمساندة السعودية للاقتصاد التركي عبر وديعة المليارات الخمس، ومن جهتها تسعى تركيا للانخراط بشكل أكبر في النظام الإقليمي الجديد، بعد سعيها لإحياء "سياسة صفر مشاكل".
وبالتوازي تسير السعودية بخطوات كبيرة بعيدة عن الولايات المتحدة الأمريكية، مدفوعة بالشعور بالإحباط والخذلان من التخلي الأمريكي عنها إبان الهجمات التي استهدفت منشآتها النفطية، وبحثاً عن شراكات إستراتيجية مع قوى كبرى في مقدمتها الصين وروسيا؛ ومقابل ذلك تحرص روسيا نفسها على كسب ود المملكة في مجالات إستراتيجية، وهي إنتاج النفط والغاز والتحكم بأسعار الطاقة من جهة، وتعلم أن كلمة الفصل في عودة نظام الأسد للأحضان العربية بيد المملكة أيضاً، لذلك أظهرت الأخيرة فعلياً حرصها لجعل مسار أستانا جاذباً ومرضياً لها.
وبطبيعة الحال، فإن التغير الأخير في العلاقات بين السعودية وإيران يدفع أيضاً من هكذا خيار بوصف يذلل عقبة سابقة كبرى، تتمثل باستحالة جلوس الطرفين في منصة واحدة. وبناءً على ما سبق فإن كل العلاقات بين الأطراف المرشحة في أفضل حالاتها رغم اختلاف المصالح والأولويات.
أما العامل الثالث والأخير فيتمثل بجاذبية الفكرة نفسها، أي مسار إقليمي لتغيير الوضع في الملف السوري، وذلك عبر ما يقدمه هكذا مسار جديد من فوائد لجميع الدول المعنية، بوصفه ميداناً صالحاً لهذه الفواعل السياسية غير المرحبة أو المتحمسة للمقاربة الدولية للحل السياسي في سوريا، كحال ضامني أستانا أصلاً ودول مرشحة كالسعودية والأردن التي تريد تغيير ما بعيداً عن اللا مبالاة الأمريكية، وتركز على مداخل أمنية وإنسانية أكثر منها سياسية؛ ولأنه أيضاً مساحة مجربة لعقد التسويات ولاسيما الأمنية منها، وهو ما يتوافق مع حاجات السعودية وإيران لاختبار إمكانية تسوية الخلافات في الملفات العالقة تباعاً، وكذلك الأردن الذي يخضع لابتزاز مستمر في ملف الحدود عبر المليشيات والمخدرات، ويرغب في الخلاص كما دول الإقليم من اللاجئين، وبطبيعة الحال تركيا الغاضبة باستمرار من النفوذ الأمريكي شمال شرق سوريا، والراغبة بحل لقضية اللاجئين والتقدم في تصفير مشاكلها الإقليمية، وإيران الراغبة بقبول إقليمي بسطوتها في سوريا وبوكيلها السوري في المنطقة.
في مقابل كل ذلك لا يمكن إنكار وجود عوامل أخرى تضعف من هذا الاحتمال، في مقدمتها الانتخابات التركية التي انتهت بفوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لولاية جديدة، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على الملف السوري والدبلوماسية التركية تجاهه، أو على صعيد سلوك إيران القادم، خاصةً مع الحديث عن ضربات عسكرية وتعزيز العقوبات الغربية، وأخيراً هكذا خطوة ستكون مستفزة بشكل كبير للولايات المتحدة، ودورها في المنطقة، وبالتالي ستتردد الدول العربية في اتخاذها بوصفها انحيازاً كبيراً بعيداً عن التحالفات القديمة وخطوة مستعجلة أكبر من المطلوب.
بناءً على ما سبق تبرز تساؤلات أخرى من المهم الاستعداد للإجابة عنها، حول الآثار المحتملة لهكذا مسار وما يمكن أن تفضي إليه هذه النسخة الجديدة (أستانا مطوّرة) بالهوامش المتاحة للفواعل الإقليمية، وإنْ استخف بها البعض تسليماً بأن المَخرج النهائي والوحيد بيد الفواعل الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية المتمركزة شمال شرق سوريا، أو أسئلة محورية أخرى حول خيارات قوى الثورة والمعارضة في مواجهة هكذا سيناريو من المحتمل أن يؤدي لطي عملي للمسار السياسي الدولي المعطل أصلاً، وإنْ تمسك شكلياً بأن الحل وفق القرارات الدولية وفي مقدمتها بيان جنيف وقرار مجلس الأمن 2254.
التعليقات (0)