حرق الكتب مسيرة من الاضطهاد تنتهي بانتصار التكنولوجيا للكتاب

حرق الكتب مسيرة من الاضطهاد تنتهي بانتصار التكنولوجيا للكتاب
مسيرة الاضطهاد: على مر التاريخ، تم استخدام فعل حرق الكتب أو إتلافها؛ كأداة استبدادية لإسكات الأصوات المعارضة وقمع الأفكار وتدمير المعرفة. واختلفت الدوافع وراء حرق الكتب، لكنها غالباً ما كانت متجذرة في الخوف والرغبة في إحكام السيطرة. حيث تعد الكتب أدوات قوية يمكنها تشكيل الآراء وتحدي السلطة وإحداث التغيير. وكذلك كان للأديان دورها في حرق الكتب عبر التاريخ. فغالباً ما يُنظر إلى النصوص التي تتعارض مع التعاليم أو المعتقدات الدينية على أنها خطيرة ويجب تدميرها لحماية العقيدة. وقد كان هذا الحال خلال العصور الوسطى، عندما استهدفت الكنيسة الكاثوليكية النصوص التي اعتبرت هرطقة، وأثناء الإصلاح البروتستانتي، عندما شارك الكاثوليك والبروتستانت في حرق الكتب لقمع المعتقدات المعارضة.
وليس هذا الفعل الأول تاريخياً، ففي عام 213 قبل الميلاد، أمر الإمبراطور الصيني تشين شي هوانغ بحرق جميع الكتب التي لا تتفق مع فلسفته القانونية، حيث كان يعتقد أنه من خلال تدمير الأعمال الأدبية والفلسفية التي تتعارض مع أفكاره، يمكنه تعزيز سلطته وسيطرته على السكان. ولم تتوقف هذه الأفعال الاستبدادية عند زمن معين؛ فمنذ حرق مكتبة الإسكندرية في عام 48 قبل الميلاد، مروراً بمحاكم التفتيش الإسبانية، حتى حكم النازية ومن ثم السوفيتية، وما بعدها وصولاً إلى نهايات القرن العشرين، حيث أخذ فعل الحرق رمزية للتعبير عن الاحتجاج، وبات المنع أداة للسلطة تقمع من خلاله الأصوات المعارضة. 

رمزية حرق الكتّاب لأعمالهم

وهناك أمثلة كثيرة على إحراق كتّاب لأعمالهم، وإن اختلفت الدوافع ورمزية هذا الفعل، ففي واحدة من أشهر الأمثلة على قيام كاتب بإحراق أعماله هي حالة راي برادبري، ففي عام 1953، تم نشر كتاب برادبري "451 فهرنهايت"، والذي يصور مستقبلاً بائساً، فتم حظر الكتاب وحرقه من قبل الحكومة، وفي مقابلة لاحقة له، كشف برادبري أنه أحرق المخطوطة الأصلية لـ "451 فهرنهايت" في فناء منزله الخلفي، قائلاً: "كان عليّ كتابتها لإخراجها من ذهني، وقمت بحرقها للتخلص منها".

مثال آخر بارز على قيام كاتب بإحراق أعماله هو حالة سلمان رشدي. في عام 1988، نُشرت رواية رشدي "آيات شيطانية"، والتي أثارت موجة من الجدل والاحتجاجات في المجتمع المسلم. حيث نُظر إلى الكتاب على أنه تجديف، وأصدرت حينذاك الحكومة الإيرانية فتوى أو مرسوماً دينياً، تدعو من خلاله إلى قتل رشدي. وفي عام 1990، اضطر رشدي إلى الاختباء، وتلقى ناشروه تهديدات أيضاً. ورداً على الجدل، أحرق رشدي مخطوطة من روايته غير المكتملة "تنهيدة المغربي الأخيرة" كرمز لإحباطه وغضبه من الموقف.

وفي السنوات الأخيرة، كانت هناك عدة حالات أحرق فيها كتّاب أعمالهم كشكل من أشكال الاحتجاج. في عام 2015، أحرق الروائي الأمريكي شيرمان أليكسي نسخاً من كتابه "مذكرات حقيقية تماماً لهندي بدوام جزئي"، كرد فعل على الجدل الدائر حول استخدام الكتاب في منهج دراسي في مدرسة في ولاية أيداهو. حيث انتقد بعض الآباء الكتاب لاستخدامه لغة نابية ومحتوى جنسي، وكان فعل أليكسي في حرق الكتاب لإظهار التضامن مع الطلاب الذين قرؤوا الكتاب واستمتعوا به.

المنع أداة السلطات الحديثة

سعت الحكومات والسلطات الأخرى منذ فترة طويلة إلى السيطرة على تداول الكتب، لأسباب أيديولوجية أو سياسية، وحتى أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحالي، استمرت هذه الأداة السلطوية عبثاً بالنتاج الفكري والأدبي حول العالم، فمن كتاب "شيفرة دافنشي" لدان براون، والذي منع تداوله بسبب اعتبار بعض المسيحيين أن الكتاب مثير للجدل، حيث شعروا أنه يتحدى معتقداتهم عن يسوع المسيح. ففي عام 2006، حظرت محكمة في الهند الكتاب قائلة إنه يسيء إلى المشاعر الدينية للمسيحيين. وقد تم رفع الحظر في وقت لاحق، لكن الحادث يوضح كيف أنه حتى في العصر الحديث، قد تسعى السلطات للسيطرة على ما يمكن للناس قراءته لأسباب دينية.

وليس ببعيد عن وقتنا الحالي، وعن موقعنا الجغرافي، فها هي بعض الأنظمة العربية -إن لم نقل معظمها- إلى اليوم تحارب الفكر والمعرفة والأدب بكل الوسائل المتاحة، البربرية منها والمبتكرة حتى، وإلى اليوم، كثيرة هي الكتب الممنوع تداولها في بلداننا، وإلى جانب أنها تفضح وتدين تلك الأنظمة؛ هي أيضاً توسع المدارك والمعرفة التي تعد نقيضاً للجهل الذي تسعى الأنظمة إلى نشره.

انتصار التكنولوجيا للكتاب

في وقتنا الحالي ومع انتشار التكنولوجيا وأدواتها، بات الكتاب في مأمن إلى حد كبير، فبالتوازي مع النشر الورقي بات الكتاب الإلكتروني رديفاً سهل المنال والحفظ، رديفاً بعيداً عن قمع السلطات ومحارقهم، حيث تبنى القراء أنفسهم أحياناً في زيادة انتشار هذه الكتب من خلال الوسائط الإلكترونية المتاحة، والعصية عن الرقابة دائماً، فبمجرد حجب أي موقع يستطيع أي شخص إنشاء منصة على إحدى وسائل التواصل وتحميل الكتب منها وإليها. 

ومن خلال ما سبق نرى أن للكتاب مسيرة طويلة من الحروب التي شنت ضده وعلى الرغم من كل ذلك بقي ليشهد سيرة انتصاره على الاستبداد وأدواته.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات