تمر هذه الأيام ذكرى رحيل الشاعر الكبير محمد الماغوط الذي هتف ذات يوم «ما من سنبلة في العالم إلا وعليها قطرة من لعابي»، كما يقول عن السلمية «تلك اللطخة السوداء في مساكن الشعوب».
المكانة التي احتلها الشاعر الراحل محمد الماغوط على مستوى الشعر العربي رغم رحيله ما زالت ماثلة في ذهن قرائه ومحبيه، واختفاء كتبه من المكتبات أكبر دليل على ذلك.
سيطر الماغوط على كل من حاول كتابة قصيدة النثر وأنا واحد منهم في نشأتهم الشعرية، وأعترف أنني لم أستطع أن أخرج من تأثير الماغوط على كتاباتي، فهجرت هذا المجال إلى صنف آخر من الكتابة.
إن الكثير من زملائه حاولوا الكتابة مثله، ولكن فشلوا جميعاً، ربما لأنه لا توجد قصيدة نثر بالأصل ومحاولة الآخرين للخروج من عباءته لم تنجح، لأن الماغوط نفسه ترك عباءته وخرج منها باكراً ولم يعد.
يذكر شقيق الماغوط الأصغر عيسى الماغوط في كتابه القيم رسائل محمد الماغوط إلى أخيه عيسى، كيف عبر الماغوط الحياة مثل نيزك يضيء بوهج ساطع، ولكن أعماقه بقيت ملبّدة بالظلام؛ ظلام أسود ومخيف يختبئ فيه الخوف والجوع؛ الجوع والخوف كانا جناحين لطائر أسطوري يخفقان في ظلام أعماقه، وكل ما حصل عليه فيما بعد العشرين من عمره لم يرمم ما جرى تمزيقه وإتلافه في سنوات، ما قبل العشرين.
ويسرد شقيقه بلغة رشيقة وأسلوب مشوق قصة طفولته مع أخيه، ومن ثم انقطاعه عنه لسنين طويلة وعودته «ممرضاً» ومعتنياً بشقيقه الكهل. ويذكر وضع الشاعر في طفولته ونشأته في السلمية وإقامته في دمشق وصولاً إلى شهرته وذيوع صيته، ومن ثم مرضه وانكساره، ويروي حول الشاعر الذي بلغ به الشغف بالدعابة الساخرة إلى القول بأنه انخرط في صفوف الحزب السوري القومي لا في صفوف الشيوعي لأن الأول، حيث مناخ السلمية قارس الشتاء، يملك جهازاً للتدفئة لا يملكه الثاني.
ويقول عيسى إنه بعد أكثر من سبعين عاماً من الجوع والخوف، لا عطايا التكريمات والجوائز أشبعته، ولا حنو أهل الأمن عليه جعله آمناً. وكان يتذكر زكريا تامر عندما خاطب قطته وهو يصب لها مرق الفاصوليا على الأرض، لا تجوعي مثلنا يا بلهاء!
في إحدى المناسبات التي أُعدت لتكريم محمد الماغوط في تسعينات القرن الماضي في دمشق، لمنحه وسام الفاتح من أيلول باسم العقيد القذافي طلب إليه أن يصعد المنبر ليلقي كلمة …
صعد إلى المنبر وقال: "إذا حكيت .. بخاف يرجع العقيد القذافي عن رأيه بتكريمي ويسترجع مني الوسام .. و نزل فوراً عن المنبر".
ويروي محمد الماغوط لشقيقه أنه كان في بيروت جائعاً هائماً على وجهه، ومفلساً طبعاً، فقصد منزل المخرج اللبناني يعقوب الشدراوي عند الفجر ليطلب منه دفع حصته من المسرحية التي ألفها له. تشاجر مع الشدراوي حتى قبض ما طلبه. وبينما كان جائعاً أيام عرض المسرحية، كان رئيس الجمهورية سليمان فرنجية يحضر العرض.
عاش الماغوط في بيروت جائعاً على الدوام، وأن حذاءه كان مثقوباً، ولا سجائر في جيبه، في حين كان نزار قباني يكتب عن الدانتيلا. أما هو وزكريا تامر فقد كانا لا يجدان بساطاً ينامان عليه، وإن زكريا عندما كان يكتب يقرب عينيه ليلاحقا الورق.
وكان ينزعج من عدم اتصال بعض الأشخاص به ومن واجبهم أن يتصلوا فيقول لشقيقه: تصور كيف أن دريد لحام سمع بدخولي المستشفى وسمع بحالتي، وسمع بخروجي وبانزوائي في البيت، ولم يحضر ولا حتى اتصل بالهاتف ليسأل عني.
ويتحدث عن الشاعر يوسف الخال أيام لبنان، وكان يذهب إلى بيته، ولم يكن يهمه ما يدور عنده من أحاديث وتنظيرات، وإنما يذهب إلى المطبخ ليأكل ما يجده من طعام ثم يجلس مع المتحادثين، بعدها يذهب إلى غرفة نوم أخرى لينام.
أما إذا استأجر غرفة على سطح أحد المنازل وحل آخر الشهر وهو أوان دفع البدل، فقد كان يترك أغراضه فيها، ويبحث عن أحد أصدقائه لينام مؤقتاً عنده.
ذهب مرة مع رفيق له من السلمية، قريته، إلى حماة مشياً على الأقدام وعندما رغبا في العودة، ولم يكن معهما فلوس، مكثا في المرآب إلى أن اختبأ في مؤخرة سيارة متوجهة إلى السلمية. بعد إقلاع السيارة شما رائحة لحم مشوي بقربهما، فبحثا في العتمة وعثرا على اللحم المشوي وأكلا حتى شبعا.
وعند اقتراب السيارة من السلمية ألقيا بنفسيهما منها وركضا بين الحقول دون أن يعلم السائق بأمرهما!.
ومن أجمل اقتباسات هذا الشاعر العملاق
«وطني أيها الجرس المعلق في فمي، أيها البدوي المشعث الشعر، هذا القلم الذي يصنع الشعر واللذة يجب أن يأكل يا وطني».
والكثير من نصوصه تشبهه على صعيد التشرد والعفوية واستخدام العبارات العامية:
قلت لها أنا عطشان يا دمشق
قالت: اشرب دموعك
قلت لها: جوعان يا دمشق
قالت: كل حذائي..
هل قرأت قصيدتي الأخيرة يا عيسى؟ جفاف النهر؟
لقد قُرئِت بصوت عالٍ في المقاهي وقالوا عنها رائعة.
كلمة واحدة والطبول الكبيرة تقرع لما يجهضه الأقزام والمشوّهون"
كان يتحدث الماغوط في قيلولته عن البطّانيّة التي كان يحتاج إليها في السجن ولم تُعْطَ له، لتبقى ذكرى حرمانه منها وذكرى من منعها عنه، تجعل أمعاءه تتشنج كما لو أنه ما زال في السجن. ومع كل مظاهر الدفء الماثلة في غرفته وفي بيته، والبطانيات المكدسة التي لم ينزع غلافها، ينهض في الليل وهو يشعر بالبرد والغثيان، بعد أن تكون البطانية التي يغطّي نفسه بها قد انزاحت عن جسده لكثرة تقلبه أثناء النوم، ولضيق الفسحة على الأريكة التي ينام عليها. وقد رفض النوم على سرير مريح طوال حياته!
مات محمد الماغوط وهو يردد قولاً قديماً: لو كان الفقر رجلاً لقتلته. ولكن محمد قتل نفسه أخيراً في حين بقي الفقر؟
قد انتهى عهده بالانتظار، والتمشي متثاقلاً باتجاه الباب، والنظر من عدسته، والتقاط وتحليل وقع الأقدام، ثم العودة إلى الأدوية والكحول والتدخين إلى أن أمسك بسماعة الهاتف ذات يوم ليرد عليها، فسقطت من يده ولفظ أنفاسه!
التعليقات (3)