"الرحم" لجورج كدر نصوص تطالب بالحرية من "رحم" المعاناة السورية

"الرحم" لجورج كدر نصوص تطالب بالحرية من "رحم" المعاناة السورية

هذه النصوص ليست شعراً

لا علاقة لها بالكفر أو الإيمان

هي أفكار كتبتها لتؤرقك لا لتريحك

كذبابة خيل 

كتبتها لأستفزك

لأنفض الغبار عنك

إن كنت من المستمتعين بركودهم

أنصحك بعدم قراءتها.

بهذا التحذير، يفتتح الكاتب والإعلامي السوري "جورج كدر" مجموعة نصوصه المعنونة بــ "الرحم"، ويؤكد أنها ليست شعراً ولا قصة ولا أي نوع أدبي آخر، إلا أننا نستطيع تجاوز تأويل الكاتب لكتابته تلك، ونطلق عليها اسم نصوص، فهي بعيدة عن النثر بقدر بعدها عن السرد العادي، تحتوي تكثيفاً وحساسية في الجملة، كما تتضمن رؤية وحواراً مع الذات أحياناً، ومع الآخر أحياناً أخرى، لذلك نراها صعبة التصنيف. لكن، وتجاوزاً لكل ذلك، هي كما وصفها كاتبها، ذبابة خيل، كُتبت لتستفز قارئها، لتحاصره الحيرة في تأويل ما قرأ، في اقترابه منها، وابتعاده عنها، وهذه سمات الأعمال المتفردة، اتصافها بالعبور عن السائد والاشتباك مع الروح المتلقية بصرف النظر عن التسميات والأشكال.

لماذا الرحم؟

برؤية أقرب إلى الفلسفية، يضعنا "كدر" أمام حقيقة البداية حين تشكُّلنا في أرحام أمهاتنا ثم رَمينا في أرحام المجتمع الكثيرة، ليصوغنا ذلك المجتمع على هواه، فتارة يضعنا في رحم الدين وأخرى في رحم السياسة... وهكذا، فالرحم بالنسبة للكاتب ليس مكاناً، أو وطناً ولا هو بغربة، أو مساحة، ربما هو الحدث، أو مسارات الحياة المختلفة، هو المعرفة، والمرحلة الزمنية، وأخيراً هو القصة. فمنذ الرحم الأول، تتراوح سطور الكاتب بين الذكرى والأحداث التي طرقت بوابة أيامه، والتي دوّنها على شكل حكايات بسرد شعري سلس وواضح المعالم، وبين الرؤية العميقة التي تحتاج إلى تحليل للولوج إليها... وكذلك تتراوح النصوص من حيث الشكل، بين التسطير العمودي الأشبه بقصيدة النثر وبين التسطير الأفقي الشبيه بالسرد. وبعيداً عن الشكل يوجّه الكاتب قدرته وإحساسه ورؤيته في اتجاه مشروع ذي موضوع واحد، على الرغم من التفاوت الزمني بين نص وآخر، ورغم تغير الأدوات والأسلوب في معالجة كل نص دوناً عن الآخر. فاللعبة هنا، هي جذب القارئ إلى ساحة الكاتب، وليست سعي الكاتب للتماهي مع قارئه.

نضع إنسانيتنا في وعاء الصمت

نغتال أملنا بشيء من بدائية الإحباط

نعبر دهاليز التاريخ... نطأطئ رؤوسنا

لا احتراماً لأبطالنا؛ إنما خجلاً من هزائمنا التي أكلها صدأ المؤامرة

نجعل من خياناتنا عقداً من الصمت

نعلقه حول حضورنا 

نتمايل كأغصان خريف محتضرة

"والصخر يا سيزيف ما أثقله".

فيما سبق تحضر السردية الذاتية الوجدانية التي لا تعبّر عن شخص الكاتب، بل هي سردية تفاعلية تمس وتتماهى مع تجارب الإنسان عموماً، والإنسان السوري الذي بات مجبراً على طأطأة رأسه عبر دهاليز التاريخ، لما حمله من عبء السنوات التي تجسدت فيما سبق بصخرة سيزيف. 

يعتمد "كدر" في بنائه الصُّوَري الشعري، على مخزون من الموروث الثقافي غير المؤطَّر بالبيئة التي خرج منها، أي الرحم، بل ينتفض إلى مساحات أبعد من ذلك، الموروث العالمي، وذلك لتجسيد فكرة عن الرحلة، الحياة، وما بعدها النهاية، الموت. كما يحضر الموروث الديني، والميثولوجيا، وغيرهم... 

الرحم السوري

العابر على نصوص "الرحم" سيظن للوهلة الأولى، أنها نصوص خارجة عن الوعي، لكن المطَّلع بشكل جيد عليها سيجدها نصوصاً سورية بامتياز، تطالب بالحرية مثلنا، أنهكها الصمت ومن ثم الحرب مثلنا، تحاول الحصول على وطن / هوية، وتتمرد بقدر مساحة الحرية التي حصلت عليها، ولا تخرج عن الواقع. وكل ما سبق يتبلور في تكرار ذكر الكاتب لمفردات كالوطن، الحرية، الثوار.... إلخ 

وطني 

يا حكايات المغتربين والمبعدين

وطني كيف ستصبح وطناً 

وبيننا ألف وجه محنَّط

وألف ضياع؟

"أصبحت ذكرى إنسان".

هذه المراوحة بين المجاز والمباشرة، والصعود والهبوط بين الخطابية والمواربة، خلقت في كتابات "كدر" فضاءً من الصرخات التي يعلنها صراحة:

فجأة، امتزجت أصابعه بشيء من عفوية العبث، كسرَ وداعة الصمت النائم رضيعاً في رحم أمه 

تحول الرعد ثواراً

غيفارا

من لهفة المعاناة لعناق، يصرخ:

"لا يهمني أين ومتى سأموت، المهم أن يبقى الثوار قائمين يملؤوننا ضجيجاً، حتى لا ينام العالم بكل ثقله فوق أجساد البائسين".

ومن خلالها نلحظ أن من خطَّ هذه السطور، لم يحاول حياكة خيوط أمل زائف، كما لم يعتمد على حدس ونبوءة الشاعر، ليلتحم مع أوجاع أبناء معاناته ويربت على جراحهم، بل جعل من ذاته مرآة للواقع، فقط الواقع بكل ما فيه من سوداوية، وضجيج وصراخ.

البداية والنهاية

يتناول "كدر" في مضمون نصوصه، فكرة الخلق والموت، وهذا ما يعيدنا إلى فكرة العنوان، الرحم، من أرحام أمهاتنا، إلى رحم الأرض، أو الفصل الأخير كما عنونه الكاتب، وهنا يطلعنا على فكرة التصالح مع هذا المرحلة المبهمة، باتجاهه نحو الأسطورة، حين يستجلب قصة كلكامش، فيقول: يجب أن يكون موتك تراجيدياً لدرجة تتيح للألم أن يسحق المشاعر البشرية، كي تخلدك الأجيال.

وعن البداية يقول في نصه "سفر التكوين": 

خلسة من الزمن

تقيأنا الوجود

التحف النهار دثار الليل

وفي خشوع

انسلَّ الفجر ضجراً من العناق

فكان الفراق.

ومنه نلحظ خلق رؤية عكسية للبداية والنهاية، فبحسب "كدر" كان التكوين أو البداية "فراقاً" بينما يرى في النهاية "خلوداً"، فمن جانب من جوانبها تُعدّ رؤية واقعية صالحة لكل زمان ومكان وليس لهذا الزمن البائس فقط.

وعدا عن ذلك تظهر أيضاً المراوغات والمفارقات في بناء الفكرة وليس على المفردة كالمعتاد، فالعودة التاريخية وإسقاطها على الحاضر بهذه الطريقة السلسة تُحسب لكاتبها.

عن الكتاب والكاتب

 جورج كدر: إعلامي وكاتب سوري / هولندي. من مواليد مدينة حمص 1978

صدر له: كتاب جذور النكتة الحمصية، معجم آلهة العرب قبل الإسلام، مشروع مكتبة الجنس في حياة العرب، هندسة الفتن، معجم لغة الطفولة، اللهو في تاريخ الكلمات، قصص على حائط الفيس بوك.

الرحم: مجموعة صادرة عن دار عشتار للثقافة والنشر والتوزيع، كندا. جاء الكتاب في 92 صفحة من القطع المتوسط.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات