تجلّت مواقف الإيثار بأبهى صورها في أعقاب الزلزال المدمّر الذي أودى بآلاف الضحايا في الجنوب التركي والشمال السوري، يوم السادس من الشهر الجاري، إذ تتوالى التضحيات لأناس بأمس الحاجة لكنَّهم آثروا على أنفسهم في سبيل مساعدة المنكوبين.
كثيرة هي المواقف الواردة لسوريين عن الإيثار بالنفس وتقديم مصلحة المنكوبين على المصلحة الذاتية، وفيما يلي 7 من مواقف:
تبرع أحد منشدي الثورة في مدينة حمص، محمد المحمد، المعروف بـ"عندليب كرم الزيتون" والملقب بـ"أبي عدي العكيدي" بكلّ ماله لمتضرري الزلزال في مدينة إدلب.
وفي تصريح لـ"أورينت" يؤكد أبو عدي (31 عاماً) أنَّه ادخر مبلغاً قدره 4900 دولار أمريكي لإنشاء مشروع صغير في مدينة إدلب، مستدركاً: "لكن عندما وقعت الكارثة رأيتُ أنَّ المنكوبين أولى من نفسي في هذا المبلغ الذي كنتُ أطمح أن يكبر مشروعي لأجمع قيمة عمل جراحي أنتظره كي أعود للمشي من جديد، واخترت فريق الاستجابة الطارئة ليتولى مهمة توزيع المبلغ".
ويوضح المحمد، أنَّه أصيب برصاص ميليشيا أسد ثلاث مرات خلال سنوات الثورة السورية، لتكون الإصابة الرابعة من قبل الجندرما التركية خلال محاولته الدخول لزيارة أهله في مدينة أورفا، هي الأقسى حيث أصابت الرصاصة نخاعه الشوكي ويعيش بحالة شلل نصفي منذ 20/ 11/ 2016، ولعدم توفر العلاج في تركيا قرّر المخاطرة بحياته عبر البحر للوصول إلى أوروبا بحثاً عن العلاج فعاش مدة في مخيمات اليونان، ومنذ عامين وصل بأعجوبة إلى ألمانيا لكن لم يتمكن من العلاج بسبب الإجراءات القانونية وكون المستشفيات العامة لا تجري عمليات مكلفة جداً كعمليته.
النضيدة الثمينة
أبرزت قافلة أهالي وعشائر المنطقة الشرقية (دير الزور والرقة والحسكة ومنبج) أسمى معاني الإيثار خاصّة ما يُسمّى لديهم بـ"النضيدة"، فضلاً عن كون غالبية متبرعي دير الزور من نازحي منطقة الشامية الخاضعة لسيطرة ميليشيا أسد (غرب الفرات) ويعيشون في منطقة الجزيرة الخاضعة لسيطرة ميليشيا "قسد" (شرق الفرات)، ومنهم من باع كلّ ما يملك للتبرع به للشمال السوري، مثلما فعل "جمعة علي الخاير" الملقب بـ"حفيد الطائي" من بلدة غريبة بريف دير الزور.
إحدى ناشطات دير الزور، ياسمين مشعان، توضح لموقع أورينت، أنَّ أغلبهم من فقراء الحال لكنَّهم آثروا على أنفسهم التبرّع بجزء من أثاثهم ولباسهم ومؤونتهم لإخوتهم المنكوبين في الشمال السوري، ومنهم من أرسل خيماً -لا سيَّما مخيم أبو خشب- كان يقطنها قبل فترة.
وتخصّ مشعان، بالذكر، إيثار نساء دير الزور بالتبرّع بـ "النضيدة"، وهي عبارة عن فراش ولحاف مصنوع من صوف الغنم المختار من النخب الأول حين موسم القصاص، وله طريقة خاصة بالصناعة من حيث غسله ومعالجته، وهي تراث تقليدي تتباهى عرائس أهل الفرات به في زفافهنّ، وهي عند النساء "نفيسة جداً وتعدّ أغلى من الذهب".
"النضيدة" عند النساء لا تستعمل في الأيام العادية لذلك يحافظن على جودتها، ولا تستخدم إلا للضيف الغالي جداً وفي مناسبات مهمة مثل زفاف أو وفاة أحد أفراد العائلة، حسب مشعان، مضيفة: "أهلنا بالشمال السوري غالين على أهل الفرات، لذلك اختاروا فرش النضيدة الثمين لإهدائه لهم".
وأشارت مشعان، وهي مسؤولة التواصل في رابطة شهداء قيصر، إلى أنَّ إيثار أهالي دير الزور ليس بجديد عليهم، فعندما بدأ النزوح من المناطق الثائرة في العام 2012 كان الأهالي يستقبلون نازحين في منازلهم لا سيما من مدينة حمص دون دفع أيّ إيجار على عكس ما فعلته مناطق أخرى من استغلال لحاجة النازحين، لكن سرعان ما نزح أهالي الدير أيضاً.
قدسية الثوب الفلسطيني
أعلنت المدونة الفلسطينية/السورية، تغريد دوّاس، المهجّرة من حي اليرموك للاجئين الفلسطينيين جنوب دمشق، عبر منشور في صفحتها على فيسبوك، يوم الأحد الماضي، عن مزاد لبيع أغلى قطعة ملابس تملكها لثوب تراثي طرزته يدوياً أمهات شهداء من مخيم اليرموك في ثمانينات القرن الماضي، كانت تنوي توريثه لبناتها، لكن آثرت على نفسها لمساعدة أطفال سوريا.
دوّاس تقول لأورينت: إنَّ الثوب "حصلت عليه كهدية زفافي في العام 2016 بمخيم اليرموك من قبل والدة صديقتي وهي بمقام أمي"، موضحة أنَّ المزاد بدأ بـ 600 يورو، لكن بعدها وصل إجمالي المبالغ إلى 2820 يورو من قبل خمسة متبرعين تبُرعاً مشروطاً بأنَّه يبقى عندها، موزعين كالتالي: نساء فلسطينيات تبرعن بـ 850€ لمنظمة الخوذ البيضاء، سيدة سورية تبرعت بـ 170€ لفريق ملهم التطوعي، وبعدها شاب فلسطيني بـ 800€ للشمال السوري، ثم 1000€ من سيدة فلسطينية لمخيم الرمل الجنوبي المتضرر في اللاذقية، والمبالغ اندفعت بشكل مباشر من المتبرع للمستفيد.
تؤكد دوّاس أنَّ الثوب الفلسطيني هو إرث حملته معها من مخيم اليرموك ويُمثل ذكريات جميلة لديها، وهو رمز البلاد المحتلة، وأي سيّدة فلسطينية تملك ثوباً مطرزاً يدوياً من الممكن أن تتخلى عن بيتها ولا تتخلى عنه، وهو بالعرف المحلي لا يُباع ولا يخرج عن نطاق العائلة، تورثه الأم لبناتها، فيما حاول البعض إقناعها بالتراجع عن قراراها لكنّها أصرت على ذلك، فكان مقابل إيثارها أن يبقى لديها.
في سياق متصل، يتحدث الناشط "أنس أبو عدنان المقيم" في مدينة أورفا لـ"أورينت" عن تواصل إحدى المتضررات من الزلزال معه لينشر ما فعله معها أحد ثوار الرستن (مصعب عليوي) الذي آثر بنفسه بيع بدلته العسكرية وبعض ملابسه ليؤمن لها اللباس والطعام وخيمة بعد أن تدمّر منزلها في مدينة جنديرس، وهي زوجة شهيد.
كذلك، يروي الإعلامي والمنشد الحمصي، نزار زبن، لـ"أورينت" عن إيثار الكثير من أهالي مدينة الباب بما يملكون من ملابس وأغطية وفرش وأطعمة من مؤونة المنزل مثل الزيت والزيتون، إذ تم تجميع ثلاث قاطرات، رغم فقر الحال إلا أنَّهم بادروا لإغاثة المنكوبين من الزلزال، كما تم إنشاء مطبخ ونقطة طبية في مدينة جنديرس المنكوبة في ريف عفرين، ويومياً هناك استئجار منازل للمتضررين من الزلزال، مع تجهيز مركز إيواء مؤقت في الباب.
وفي مدينة إدلب، يذكر الناشط السياسي رضوان الأطرش لـ"أورينت"، تبّرع أحد السكان بمبلغ مالي كان قد جمعه لمشروع تجاري فآثر المشروع عن نفسه، وهناك سائق جرافة فقير الحال ذهب بها للبحث عن ضحايا وتعرّضت لضرر وصلحها على حسابه الشخصي، إضافة إلى أنَّ أهل المخيمات في إدلب المحتاجين أساساً أطلقوا حملة مساعدات لمنكوبي الزلزال.
الأطرش، يؤكد أنَّ أزمة الزلزال كشفت خداع وتخاذل المجتمع الدولي والأمم المتحدة، أمام كرامة الشعب السوري وإيثاره لبعضه البعض، موجهاً رسالة للمجتمع الدولي، بأنَّ عليه التحرُّك العاجل لإيجاد حل سياسي ينهي مأساة المهجّرين الذين لا يريدون خيماً أو إعادة إعمار، بل العودة الآمنة لمنازلهم، وذلك عبر تطبيق قرارات 20118 و2254، فكلّ يوم يتقاعس فيه المجتمع الدولي عن تطبيقها يزيد من معاناة السوريين ويموت المزيد من المعتقلين في سجون الأسد.
تتعدد مواقف الإيثار خاصة بيع المصاغ الذهبي لسيّدات سوريات أو عربيات، منها ما ذكره الإعلامي مالك أبو عبيدة، عن تبرع فتاة من مدينة طفس في درعا بخاتم خطوبتها لفزعة أهل حوران للشمال المحرر، فتسابق المتبرعون للمزايدة عليه بمزاد خيري، رسا بـ 11 مليون ليرة سورية ما يعادل ١٧٦٠ دولاراً أمريكياً على أحد أبناء بلدة عتمان وتبرّع بالخاتم لصاحبته، أيضاً هناك أطفال تبرعوا بمطمورة نقودهم.
التعليقات (1)