بعد فترة انفصال دامت عشر سنوات بين محمد الماغوط ودريد لحام، كان كثيرون يراهنون على توقف الماغوط عن الكتابه للمسرح، واعتبروا محاولته الكتابة مغامرة بعد سلسلة من الأعمال الناجحة معاً في في أربع مسرحيات كانت على التوالي: "ضيعة تشرين"، "غربة"، "كاسك يا وطن" "شقائق النعمان". والمسلسلين التلفزيونيين "وادي المسك" و"وين الغلط "وفيلما "الحدود" و"التقرير" ايضاً.
لكنه عاد في مسرحية 'خارج السرب' في عام 1998 من إخراج جهاد سعد، وكان قد كتبها خلال تلك الفترة منذ 1988 وحتى 1998، على طاولته المحجوزة له دائماً في مقهى أبو شفيق في الربوه محاطاً بالناس والجبال والأشجار ونهر بردى.
خارج السّرب لتطوير المسرح السياسي في الوطن العربي
في مسرحية ' خارج السّرب' هناك مسرحيّة داخل مسرحيّة، تتلخص بمحاولة مجموعة من الممثلين المغمورين بإخراج مسرحيّة 'روميو وجولييت' الشهيرة لشكسبير، حيث يواجه هذا العمل المسرحيّ تدخلاً مستمرًا من 'عاطف' جهاد سعد مستخدم المسرح حامل المكنسة وهو يقوم بكل ما يتطلبه المسرح إلا الوقوف على خشبته للتمثيل، وهذا حلمه الأبدي الدي يقاسي الأمرين لتحقيقه الذي يحاول المخرج عابد فهد ثنيه عن المضي قُدمًا في حلمه طالبًا أخذ دور "روميو" الذي لعبه وائل رمضان مع نضال نجم.
اللجنة التي تمثل حكومات الاستبداد العربية
يتمحور العرض حول المندوب زهير عبد الكريم المكلّف بالإشراف على سير المسرحيّة ومعه تفويض لتطوير المسرح من الجامعة العربية، ليبدأ تدريجياً بالتدخل وتغيير النص وحذف المشاهد التي لا يقتنع بها، وتسير الأمور نحو تدخل متزايد لتغيير النّص والممثلين واحتلال المسرح الأمر الذي يدفع بالممثلين الرئيسين للاعتذار عن العمل ليقوم هو بالإخراج وإحلال أعضاء لجنته أبو ماهر وأبو المجد وأبو قصي وأبو مضر محلهم، وهم عبارة عن جهات رسميّة حكوميّة ودوليّة للإشراف المسرح ويظهرون بأطقم رسمية ونظارات سوداء…
تتدخّل اللجنة بطريقة تغيّر مسار قصة المسرحية وحوار الممثلين. وصولاً الى الاستيلاء على المسرح وشراء جولييت وطرد روميو وتحييد المخرج وعزله. لنصل بالنتيجة إلى هدم المسرح برمته على يد هذه اللجنة التي تمثل حكومات الاستبداد العربية التي تقمع الحريات والفكر والأدب على حساب التفاهة والانتهازية وتكريس ثقافة الحزب الواحد والقائد الواحد والفهمان الواحد.
لا يكفي أن تكون موهوبًا لكي يحبك الناس يجب أن تحبك السلطة أيضاً
عندما قالت له بشرى الأسد والله نحن اللجنة يا أستاذ محمد.. بس منحبك
خلال فترة عرض المسرحية التي استمرت ثلاثة أشهر على مسرح اتحاد العمال بدمشق التي كنت أحضرها يوميًا تقريبًا .
يجلس بالصدفة اللواء آصف شوكت مع زوجته السيدة بشرى الأسد في الصف السابع وأنا خلفهما تمامًا وتجلس وزيرة الثقافة السيدة نجاح العطار مع حاشيتها في الصف الأول، وكاتب المسرحية محمد الماغوط يجلس على كرسي خيزران في بهو قاعة الدخول عند الباب وحيدًا ينتظر …
انتهى العرض ووقف الجميع وصفقوا. و نزل الممثلون من خشبة المسرح وسلموا على الوزيرة وفي مقدمتهم جهاد سعد وعابد فهد.
سألت الوزيرة عن محمد الماغوط وتوجهت إليه خارج القاعة كان واقفاً ينتظر يستند على عكازته وظهره محدب قليلًا وكنت أقف بجانبه على اليمين مباشرة .. اقتربت الوزيرة منه وصافحته بابتسامه وكلمات شكر وتقدير.
خرجت الوزيرة وتبعتها الحاشية ثم تقدمت السيدة بشرى وبجانبها زوجها
صافحته بموده وحب وبابتسامة
قالت له بلهجتها العامية: يعطيك العافية
والله نحن اللجنة يا أستاذ محمد
بس منحبك
لم يبتسم الماغوط ولا زوجها
ولم يقل الماغوط شيئًا .
بدا على وجه آصف شوكت عدم الارتياح وربما الغضب وثم شد قامته وغادر الزوجان، بعدها تقدم منا زياد سعد شقيق الفنان جهاد سعد وعرض علينا أن يوصلنا بسيارته إلى البيت
تحركت السيارة والجميع ساكت وملامح عمي لا تبدو بحالة رضا، قال زياد الذي كان يقود السيارة وينظر إلى المرآة موجهًا كلامه لمحمد الماغوط، لقد أعجب اللواء آصف بالمسرحية سكت عمي قليلًا ثم انفجر غاضبًا وقال بصوت أجش وعالٍ وهل أكتب أنا لكي أعجب رجل مخابرات! هل تريد لرجال المخابرات أن تعجب بمسرحياتي؟ .
شعرت وقتها أن الماغوط كان يمثلني ويمثل كل السوريين في تلك اللحظة. وهو الموقف الذي دفعت ثمنه أنا شخصياً الكثير ..
طأطأ زياد سعد رأسه وأحس بالخجل وقاد السيارة دون أن يتكلم أو يلتفت الى أحد .
عندما دعاه العماد ناجي جميل لشرب فنجان قهوة في مكتبه
بعدها بسنوات وتحديداً عام 2007 التقيت بورشة عمل إعلامية بمدير عام سابق للوكالة السورية للإعلام وسرد لي قصة في نفس السياق السابق قال:
في أوائل تسعينات القرن الماضي اتصل بي العماد ناجي جميل وكان يشاهد الماغوط يوميًا يمر من أمام مكتبه في مبنى قيادة القوى الجوية (الآمرية) في دمشق حي أبو رمانة في طريقه إلى الربوه
طلب منه نقل تحياته له و برغبة العماد دعوته لشرب فنجان قهوة في مكتبه …
أجابه الماغوط بغضب وبصوته الأجش المتهدج أنا لا ألتقي بضباط مخابرات!
الماغوط كان يمشي بعكس التيار، و ينطق باسم الشعوب جميعاً
أعتقد ان اللواء والعماد وكبار ضباط المخابرات لا يعرفون لماذا لا يرغب الماغوط بلقائهما
وحدهم الآخرون من يكتب لهم، الأنقياء أكثر من المطر قبل أن يلامس الأرصفة. من لا يعرفون إذا كانت «اللوموند» تصدر في باريس أو في أبو ظبي، للذين يولدون ويموتون من دون أن يغادر أحدهم قريته، أو يتخلى عن أصدقائه، أو يغير نوع تبغه، أو يبدل طريقة استلقائه على عشب البيادر أو بلاط السجون، وحدهم الآخرون من يكتب لهم يعرفون.
التعليقات (23)