سنة 2003 درّستُ الأطفال في "خان السبل"، كنتُ معلّمةً قد تخرّجتُ حديثاً من "دار المعلّمين والمعلّمات" في إدلب، وكان لِزاماً وفق "القرارات التربوية الإدارية" أن أصرف زمناً من عُمري وبعيداً عن مدينتي قبل أن تُتاح لي الظروف (الواسطة يعني)، فأصير معلّمة طبيعية تعيش بشكل شبه طبيعي فتخرج من منزلها قبل ربع ساعة لتصل إلى مدرستها في الموعد المناسب، وليس أن تستيقظ قبل موعد الدوام بساعتين!.
بنات وزوجات ضباط الأمن العلويين
بالطبع وما أسوأ هكذا طبع، لم تكن هذه "القرارات التربوية الإدارية" ساريةً على جميع الخرّيجات، وبالأخصّ بنات وزوجات ضبّاط الأمن، ومرّة ثانية بالأخصّ.. بنات وزوجات "ضبّاط الأمن العلويين"، فهؤلاء لم تكنّ بحاجة سوى لاختيار وتحديد أقرب أو أنسب مدرسة شكلية، و"شبّيكي لبّيكي" وزارة التربية بين إيديكي، (ولا حاجة بعد نقنقة الدجاجة) للحديث عن دوام أو التزام، فبالطبع أيضاً.. آخر المسائل مسألة مستقبل الطفولة والتعليم، يعني ابنة "حمّام القراحلة" أو "بيت ياشوط" أو "الفاخورة" أو "القرداحة"، التي في نفس الوقت ابنة رئيس فرع الأمن العسكري أو الأمن السياسي أو الأمن الجوّي أو أمن الدولة أو الصولة والجولة في إدلب، كيف وماذا تعلّمت أصلاً كي تعلّم أطفال إدلب أو غيرهم وغيرها في "مدرسة الوحدة العربية" و"مدرسة النضال العربي" و"إعدادية "العروبة" أو إعدادية "الثورة العربية"؟.
هذي الأسماء "العروبية" أسماء حقيقية لمدارس ليست كالمدارس، كانت موجودة في إدلب لعشرات السنين، واستعراض أسماء المدارس في سوريا -وذا استطراد للفائدة- سيُنبي عن أو يُبنى على ثلاثة خيارات لا أكثر: مدارس بأسماء أعلام متنوّعين كجودت الهاشمي في دمشق والمأمون في حلب وجول جمّال في اللاذقية والمتنبّي في إدلب، أو مدارس أسميت بأسماء شهداء "حرب تشرين التحريرية" حصراً، مثل مدارس "يحيى دهنين" و"عبد الكريم لاذقاني" و"فاتح السيّد" في إدلب، الحرب التي باع فيها "العلوي الطائفي" حافظ أسد دماءهم ثمّ كُتِبت أسماؤهم بخطوط رديئة غليظة على لافتات سوداء معلّقة على أبواب المدارس، أو أنّ "المدارس السورية" تُسمى بأسماء المعارك والمناسبات الوطنية الظريفة المُعتَبرة، مثل مدرسة "تشرين" ومدرسة "الثامن من آذار" ومدرسة "السابع من نيسان".
سنبيع حتى ذكرياتكم!
"خان السُبُل" هكذا اسمها وليس "خان السبْل"، والمقصود "السُبلان" بسبب كثرة موارد المياه الجوفية فيها أو ما يُسمى بالآبار الارتوازية على الأرجح وذا بعد السؤال والاستفسار، هي قرية أو بلدة صغيرة تقع جنوب "سراقب" في محافظة إدلب، وما وصل عدد سكّانها حتّى 2010 في أكثر التقديرات إلى 8000 نسمة، ولقد اشتهرت وبسبب الجغرافيا الطبيعية بإنتاج وصناعة الحجارة والرخام، ما يُدعى بالحجر السوري الأبيض، الحجر الذي استخدمه من استطاع من "الأدالبة" وغيرهم في الجوار لبناء عماراتهم وبيوتهم أو في تغطية وتزيين أسطح جدرانها الخارجية، والقرية أو البلدة صغيرة لكنّها قديمة بل وعريقة، وكان فيها رسوم وآثار وملامح قد تعود لعصر مملكة "إيبلا" التي تمّ اكتشاف آثارها منذ ستينيّات القرن الماضي في موقع "تلّ مرديخ" القرية الواقعة تماماً بين "سراقب" في الشمال على بعد عشرة كيلومترات منها، وعلى نفس البعد من "خان السُبُل" في الجنوب، "مملكة إيبلا"، المملكة التي اخترع أهلها لغة مكتوبة قبل خمسة آلاف عام، وقيل أنّ أبجديتها هي الأقدم في التاريخ وليست أبجدية "أوغاريت" أو غيرها.
في أيّار 2020 "قام "دحروج الحسن"، نعم هكذا هو اسمه "دحروج"، وهو عضو في ميليشيات الشبّيحة ومن أهالي "خان السُبُل" بعد الاستيلاء عليها وقتذاك بواسطة القصف والهمجية وبالعمالة والسفالة، ببثّ مقطع "فيديو" قال فيه شخصياً وبالحرف: سنبيع أسياخ الحديد المستعملة في الجدران، رح نبيع كل شي، حتّى ذكرياتكن اللي بالضيعة، انتوا ما قعدتوا عاقلين، بدكن حرية؟، بدكن هالصرماية، ولم يفهم أحد سوى أهل "خان السُبُل" أهداف ودوافع هذا الشبيح الشرس، لكنّما بالسؤال تبيّن أنّ هذا اللص الذي ابتدأ بسرقة أسياخ الحديد من جدران منازل القرية وحتّى نبش قبور شهدائها الذين قضوا فدوى للثورة السورية، تبيّن أنّه من أهالي الضيعة أو القرية، وأنّه منذ اندلاع ثورة الكرامة السورية وقف إلى جانب نظام أسد متطوّعاً في قطعان "الدفاع الوطني" مثله مثل أيّ حيوان آخر من السوريين "السنّة" الذين قتلوا أهلهم كرمى عيون العلوي الطائفي القذر بشّار أسد الذي أرسل منذ 2003 كلّ ما أمكن إرساله من الشباب المتحفّز للجهاد والنضال والكفاح والمقاومة ضدّ "الأمريكان" في العراق، وكان لـ"خان السُبُل" نصيباً وافراً من هؤلاء الشباب الطيّبين، الشباب الذين يمكن وصفهم تماماً بالمغرّر بهم.
جنازات شبان خان السبل
كان أهل "خان السُبُل" في منتهى الطيبة، وكانوا يحترموننا ويقدّروننا كثيراً كمعلّمات على الأخصّ، هكذا تقول المعلّمة التي افتتحت الحديث في هذي المقالة، ولقد كان الجميع أطفالاً ونساءً ورجالاً يحتفون بنا على الدوام، وكنّا نبادلهم كلّ الاحترام والتقدير، فلا تمرّ مناسبة أو فرصة للتعبير عن ذلك إلّا وقمنا بواجب المشاركة، لكنّنا سنة 2003 لم نشارك في مناسبة سعيدة واحدة، ولقد حضرتُ بنفسي تسع جنازات من عشرات، كانت كلّها لشبّان من أهل القرية "خان السُبُل" الذين ذهبوا إلى العراق لمقاتلة "أمريكا" بعد سقوط "صدّام حسين"، وكان جواب كلّ سؤال حول كيف حدث ولماذا وفي كلّ عزاء دائماً على هذا النحو: والله يا بنتي ما بنعرف، بس رفقاتو خبّرونا انو بس دخل عالحدود العراقية قوّصوه.
أرسل العميد "نوفل الحسين" العلوي الطائفي وغيره والذي كان معاوناً لرئيس فرع الأمن العسكري في إدلب وقتها ما استطاع من شباب إدلب إلى العراق بذريعة وحجّة وسبّة المقاومة والجهاد، مستغلّاً عواطف الشباب المحمومة وضمائرهم النقية، وبدا النظام من خلال ذلك الوجه القذر، متحمّساً لقضيّة المقاومة وتوابعها، وكان أولئك الشباب -إن عاد منهم أحد- يزورون فرع الأمن العسكري في إدلب بناءً على دعوة رفيق لطيف اسمه "حيدر" أو "جعفر" أو "شنتر" وإلخ، فيُستقبَلون بالترحيب الشديد ويُسألون عن احتياجاتهم، ثمّ يغادرون معزّزين مكرّمين، حتّى يرتاح الواحد في بيته ليلة أو ليلتين، ثمّ يغادر إلى العراق.. فيُقتَل فور عبوره الحدود، وباسم الجهاد والكفاح والنضال والمقاومة.
جهاد العلويين من أجل بقاء النظام
لم يُرسل "نوفل" وغيره إلى العراق علويّاً واحداً، فمهمّة العلويين هي المقاومة الداخلية، مقاومة أيّة التفاتة ضدّ النظام أو الظلم أو نحو الحلم بالتغيير، وكان أبناء السوريين "السنّة" هدفاً قديماً مباشراً بكلّ الوسائل المباشرة وغير المباشرة، ولمن قد يتقوّل أنّ هذا المقال "طائفي"، أقول: في الحقيقة لا، إنّ معظم العلويين هم الطائفيون، وفي المقابل.. إنّ الكثير من السنّة "دحاريج" يتقنون التبرير والإنكار، وما بين الطائفية والدحرجة استطاع أسد المارق دولياً أن يقتل مئات آلاف السوريين بفضلٍ من الطائفيين والمتدحرجين.
اللهم سَهِّلِ لنا "السُبُل" للخلاص من الطائفية والدحرجة منها وإليها.
التعليقات (3)