دولة العبث: فواز العلو يروي أربعين عاماً من العبث بالوطن وإذلال المواطن

دولة العبث: فواز العلو يروي أربعين عاماً من العبث بالوطن وإذلال المواطن

كان وما زال الاشتغال الأدبي والتوثيقي الذي تناول مرحلة حكم البعث لسوريا منحصراً ضمن إطارات محددة، ففي مجال الأدب على سبيل المثال - وهنا توجد أعمال كثيرة - تناولت الحقبة بمساحات ضيقة حاولت إبراز الصفة الاستبدادية المباشرة لحكم البعث، من دون الولوج إلى رؤية الفرد بعينه في تلك الفترة، أي اقتصرت معظم تلك الأعمال على استحضار الرؤية الجمعية، أما في الإطار التوثيقي فقد اشتملت على أعمال سياسية وشهادات بلغة تقريرية جامدة، لكن في كتاب "دولة العبث" للكاتب "فواز العلو" والصادر مؤخراً عن دار موزاييك للدراسات والنشر، استطاع الكاتب السير في كلا المسارين بالإضافة لتركيزه على الحالة الفردية ورؤيته للحقبة من وجهة نظر مختلفة عن الآخر وعن المنمط والسائد في تلك الحقبة، رؤية ذاتية تؤثر وتتأثر في جميع عوامل الحياة وتشكلها وُفق ما مرت به من أحداث.

حكايا الفساد والاستبداد

تغلغل "فواز العلو" في عمق الحكايات السورية ثم أطلقها على ألسنة شخصيات متعددة، تختلف عن بعضها في المستوى الفكري والحياتي، وتجتمع في عيشها لمرحلة واحدة، مرحلةٌ سمتها الأبرز العبث بالوطن والمواطن. 

"ما دام قائد المنطقة لديه ثلاثة آبار، ورئيس فرع الأمن العسكريّ لديه مثلها، ومساعد المخفر وشرطته يحصلون على خمسة آلافٍ على حفر البئر الواحد، فأيّ حزبٍ وأيّ وزارةٍ هذا الذي يستطيع التّدخّل؟ 

أضف إلى معلوماتك يا أستاذ؛ إلى جانب من ذكرتهم من مالكي الآبار، هل تعلم أنّ المحروقات اللازمة لها تأتي من مخصّصات الجيش والأسمدة من المصرف الزّراعيّ؟ الله أعلم كيفيّة الحصول عليها، أمّا الحصّادة في نهاية الموسم، فالمتبرّعون كثرٌ خشية مصادرات آليّاتهم!"

خياران لا ثالث لهما

يتكئ الكتاب في بدايته على مجتمع طلابي وافد من محافظاتٍ سوريةٍ مختلفةٍ إلى العاصمة دمشق، مجموعةٌ يملؤها الشغف في عيش حلم المدن الكبرى بما فيها من مساحة حرية واحتكاك واختلاط، فحاولوا في البداية ترجمة هذا الشغف بالدخول في سجالات سياسية واجتماعية ظناً منهم أن مساحة الحرية التي وفرتها العاصمة هي مساحة كبيرة، إلا أنهم ومع مرور الوقت أخذوا بالانحسار هم والمساحة التي كانوا يظنونها؛ ليصطدموا بواقع قاسٍ ومختلف، واقع وضعت حدوده الزمرة الحاكمة وأطّرته بمعتقلات وإرهاب... ومن هنا يجد الشباب السوري أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الهجرة أو البقاء والعيش في مملكة الصمت...

وقد أفرد العمل لكل شخصية صوتها الخاص، رؤيتها الخاصة، عاطفتها؛ لكي تؤخذ على محمل الصدق أكثر..

من مجزرة حماة إلى الثورة السورية 

منذ تشكيل مافيا الأسد مروراً بالمجازر والتوريث ومن بعدها البراميل المتفجرة والمذابح التي شهدتها الأرض السورية إلى الهجرة والفرار من آلة القتل الأسدية، خلق "العلو" مرويّته بأسلوب شائق وسلس بعيد عن التكلف والتزييف، فقد استحضر حقائق وأحداث جرت ووُثّقت من قبل.

وكأن الكاتب بعد مرور هذا الزمن فرّغ مشاهداته والأحداث التي مرّ بها في بوتقة الشخصيات التي خلقها، أو ربما هي شخصيات حقيقية من ذاكرة الكاتب، بتقنية أدبية سلسة.. كما استفاد من المراحل المتقدمة حيث صهر بعض الأحداث التي مرت "كمجزرة حماة، الحرب الأهلية اللبنانية، انهيار الاتحاد السوفيتي، الثورة السورية..." وما خلّفته من آثار على المجتمع السوري في سرديته التي لم تتخذ منحىً تصاعدياً كما في معظم الكتابات التي تسير في مسار اللغة الأدبية، بل جعلها شهادات وقصصاً واقعية تبدأ وتنتهي ضمن المسار الرئيس للسردية..

"إنّ ما يجري يا أصدقائي يدمي القلب على كافّة الأصعدة، فالمجزرة لم تكن مقتل مجموعةٍ من الشّباب الذين أدموا القلوب، لن تتوقّف عند هذا الحدّ فقط. أعتقد أنّها فتحت أبواباً لم تكن بالحسبان ولم يتوقّعها أحد، فتحت الأبواب لتغيّراتٍ جذريّةٍ ومهمّةٍ في هذا البلد، ستسقط طبقاتٌ وتصعد أخرى، سيُسحَق أناسٌ ويصعد آخرون، سيتغيّر شكل المتنفّذين وشكل الولاءات، ستبرز  بُنىً اجتماعيّةٌ جديدةٌ لم نعتَد عليها، ستُمحى ألوانٌ ويتغيّر شكلها، أعتقد أنّه لا توجد منطقةٌ وسطى أو رماديّة، إمّا أبيض أو أسود، لا لون آخر بينهما. سيحلُّ مفهوم الواحد الأحد، لا شريك له إلّا بالطّاعة."

ممارسة المواطنة الحلم المستحيل!

أربعون عاماً بوثيقة واحدة، تروي الحب والاعتقال والحرب ومشاعر إنسانية أخرى، ارتبطت جميعها بحلم صغير هو في الواقع حلم مستحيل "ممارسة المواطنة" كحق من حقوق أي شخص يعيش على هذه البقعة الجغرافية...

تنتهي معظم حكايات "دولة العبث" إما باعتقال أو موت أو فرار، كما هي في الواقع من دون لمسات تجميلية، ومن المرجح أنّ الكتاب عبارة عن صرخة إدانة في وجه عصابة أسد وحزبها.

كما رصد الكاتب الحياة في مدن ومحافظات أخرى كدير الزور والرقة، وتحكُّم السلطة بأرزاق الشعب في المحافظات النائية، من خلال التسلط على المشاريع الزراعية والري. ولم يغفل عن الهجرات التي سببها شح الماء، وتشكيل آل الأسد وحزبهم للحزام الأمني شمال شرق البلاد.

وأخيراً، نستطيع القول إن "دولة العبث" توليفة لتاريخ سوريا القريب، بكل ما فيه من فوضى وقسوة، تأريخ لم يقف عند السياسة فقط بل تغلغل في مفاصل الحياة السورية وأظهر أوجاعها التي ما زالت ترزح في جسدها إلى يومنا هذا، وكأن "العلو" أراد أن يقول بطريقة غير مباشرة أنّ ما يحصل اليوم سببه ما حصل البارحة. 

"الصمت هو لغة العبيد أو ساكني القبور الذين ينفذّون الأوامر فقط، تلك اللغة مقيتة بالنسبة لي..... والصراخ لا أستطيعه ولا أقدر عليه، لذا اخترت دائماً حديث الهمس، لدي أمل أنه سيأتي يوم يتعالى في الهمس لكثرة من يهمسون، فيتحول شيئاً فشيئاً إلى صراخ يسمعه العالم."

عن الكتاب والكاتب:

جاء الكتاب في 238 صفحة من القطع المتوسط وهو صادر عن دار موزاييك للدراسات والنشر (تركيا)

فواز العلو: كاتب سوري.

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات