(كتاب الذاهبين) لرائد وحش: عن البداية والنهاية وطقس النثر السوداوي

(كتاب الذاهبين) لرائد وحش: عن البداية والنهاية وطقس النثر السوداوي

مطلًا من شرفة النثر، يلقي الشاعر والكاتب الفلسطيني - السوري رائد وحش، ثنائية الخلق والموت، بحسب رؤيته الفلسفية الرمزية، من خلال مجموعة نثرية أطلقها تحت عنوان (كتاب الذاهبين). حيث يحكي "رائد" باستفاضة حكاية كل مخلوق ويرده إلى أصله، "الحجر" متكئاً بذلك على الموروث الثقافي / الديني، وعلى لغة شعرية عالية، وكأنه يحاول خط "إنجيله" الخاص. 

خلطة تعتمد المجاز والتكثيف، وتتراوح بين السرد القصصي والتصوير الشعري، يُدخل الشاعر قارئه من خلالها إلى عوالم ميتافيزيقية ليصلا سوياً إلى فكرة مفادها أنّ البشر يتشاركون وعياً جمعياً يحكم فكرتهم حول دورة الحياة وانصهارهم بالضرورة في بوتقة واحدة عند نهاية المطاف "الموت".

"لم يتقادم سوى من خيبة أمله، فأرسل إليّ الرجل النَّسر، الذي قال في تقديم نفسه إنه الوحيد القادر على خلق اتصال بين الكواكب، والتغلب على المسافات بين الأرض والسماء، بين عالمَي الألفة والغرابة، فلأنّ الكواكب حجارةٌ، ونحن أيضاً حجارةٌ، تنجح مراسلات الرجال الطائرين أمثاله."

ثنائية الحياة والموت

يأتي "رائد" في كتابه على ذكر عملية الخلق والدمار وبأنهما وجهان لعملة واحدة، فمن أجل أن تخلق عالماً جديداً مفعماً بالحياة والأمل ينبغي عليك أن تدمّر مدناً وتنثر أشلاء سكانها على السطوح، وهنا تكمن المفارقة التي تثير التساؤل حول عبثية الحياة وجدواها مقابل أصالة الموت وتجلّيه في رموز لا يستطيع فهمها سوى الإنسان الذي يتأمل أفعاله زمناً طويلاً ويدخل في غيبوبة ليصلح أخطاء العالم.

وقد تعتبر ثنائية (الهدم والبناء) أحد أساليب كتابة النص النثري الحديث، لذلك نراها مُعتمدة في نص "رائد" على مستوى الأسلوب وفي بناء الفكرة أيضاً، الفكرة التي ابتعد فيها الكاتب عمّا هو رائج في الحركة الأدبية اليوم. 

"ما أحبُّهُ في الحياة صنعه الموتُ، فلولا غموضُه لم يكن هناك ذكاء أصلاً، منذ لوّث الحياة بسؤاله أرغمها على أنْ تتكلّم، على أنْ تجيب، مرّةً بالأساطير، مرّةً بالأديان، ومرّاتٍ بالفنون والعلوم. ما أكرهه في الموت صنعته الحياةُ، بالتحديد حين عدّتْهُ عقاباً. ثمّ راحت تلوّح لنا بتلك الأكذوبة الكبرى مثل عصا. وبذلك الخبث سلبت مني، ومنكم، كما غيرنا من الكائنات، حق الانحياز إلى الموت".

يبدو للوهلة الأولى طغيان طقس سوداوي في سماء "كتاب الذاهبين" إلا أنه يتكشّف شيئاً فشيئاً على مخطوط فكري أو بحث شعري تناول الفناء كموضوع تتجلى فيه الواقعية كصوفي في حلقة ذكر. ومن المؤكد بعد الولوج في هذا البحث، أن يخرج قارئه محملاً بالأسئلة الوجودية التي لم يجد الكاتب أجوبة لها أيضاً. ومن أكثر الأسئلة التي قد يخرج بها القارئ، ما هو الموت؟ وكيف هي الحياة الأخرى؟ هل هي كما رويت في الأساطير أم ستتخذ الشكل الذي ورد في الديانات؟ أم قد تتخذ شكلاً لا نعرفه.

إلا أننا سننحاز إلى السؤال الذي أجابنا عنه الكاتب في مرويته:  

من هم الذاهبون؟

من خلال نصوص "كتاب الذاهبين" نتلمّس أنّ لكل شيء في هذا الكون رحلة، تبدأ بالخلق وتنتهي بالموت والاندثار، والكل في هذه الرحلة يسلك طريقاً واحدة، يعبرها بغض النظر عن شكل هذا العبور، فالانصهار الأخير واحد. وقد احترف الكاتب في رواية هذه الرحلة فأطلق عليها اسم "الذاهبين" فالكل ذاهبون إلى هذه النهاية.  

"رحلةٌ تكتبها أجسادنا. فينا من يرونه جائزةً فيقتلون الماضي، وفينا من يَعُدّونه عقاباً فيُعدمون الحاضر. لا هو بداية ولا نهاية، لا نسيان ولا ذاكرة، بمقدار كونه إضافةَ عيونٍ إلى عيوننا، وأيدٍ إلى أيادينا، ليكون لنا أن نرى الخسارة ونلمسها، ليكون لنا حملُها بطاقةَ هوية".

ولا تظهر هنا مرافقة "رائد" الذاهبين في رحلتهم بكاميرته ليرصد الرحلة، بل نراه مستغرقاً -كما الذاهبين- بهواجسه وقلقه الوجودي، فهو أيضاً لا يدري كيف جاء وكيف سينتهي.

كما استغرق في العمل بتقنية النص المفتوح، وهو أسلوبٌ قلّما يستخدمه الأدباء العرب في أعمالهم، غير أنّ "رائد وحش" تمكّن من الإمساك بخيوط هذا النوع من الكتابة بثقة وبحرفية عالية تجعل القارئ غارقاً في بحور من القصة والنثر والشعر في آن واحدة، ممزوجة بنكهة رمزية، وزاخرة بالصور.

واحتوى الكتاب -بالإضافة إلى النصوص- على عدد من القصائد النثرية التي لا تقل في لغتها وجودتها عمّا انتهجته النصوص. 

ولم تكن الكتابة بالنسبة لرائد في "كتاب الذاهبين" مجرد بوح وجداني ينفّس ما في قريحة كاتبه، بل يظهر كانتصار للمفردة الشعرية المتفردة، هذا بالإضافة إلى الهمّ الذي كان شاغله الأول والأخير، ألا وهو "الفكرة". وهنا تظهر مرادفة النص للواقع أو الهمّ الوجودي الذي اختار الكاتب أن يعبّر عنه بهذه اللغة العالية.

من أجواء الكتاب:

إليكم إذًا كلماتي الأخيرة:

لا أنا بالعدو ولا الشرّ..

إنما أنا سرّكم الذي بِتّم تعرفونه وتدعون به جهلاً.

عرفتموه في مصر القديمة،

والمصريون ظلوا يتحدثون معي 

إلى أن ضاعت المحادثات

حينما نسوا لغة الطقوس القديمة

ولأنّ القصة كلها تدور حول المعرفة

ولأنّ من يعرف سينجو

أبشّركم بالخلاص 

أبشّركم بصفاء المعرفة

كلكم خالدٌ

ما دام الكل آيلاً حجراً في النهاية 

فلا تجزعوا من التحول

في رحلة أبدية 

محطاتها أجساد مؤقتة.


عن الكتاب والكاتب:

- (كتاب الذاهبين) نصوص نثرية  في 88 صفحة من القطع الوسط 

-  صادر عن منشورات المتوسط- إيطاليا. ضمن سلسلة (براءات).

- رائد وحش: كاتب وصحفي فلسطيني - سوري، من مواليد دمشق 1981، يقيم في ألمانيا. عمل محرراً في عدد من الصحف والمواقع الإلكترونية.

صدر له:

لا أحد يحلم كأحد 2008 (مجموعة شعرية)

عندما لم تقع الحرب 2012 (مجموعة شعرية)

قطعة ناقصة من سماء دمشق 2015 (نثر)

مشاة نلتقي.. مشاة نفترق 2016 (مجموعة شعرية)

عام الجليد 2019 (رواية).

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات