وفي الوقت الحاضر، لم يعد النشاط الدولي للفواعل أو الوحدات دون الدولة يقتصر على الدول الفيدرالية، بل امتد ليشمل الدول الموحدة ذات الأنظمة المركزية. ومع الوقت، أصبحت بعض الحكومات توظف قنوات خلفية موازية لقنوات الدبلوماسية التقليدية للضغط على صناع القرار وقادة الرأي في دول أخرى لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية، وغالبا ما تدار هذه القنوات الخلفية عبر "جماعات الضغط" و"شركات العلاقات العامة"، والتي تقوم بدورها بتوظيف الدعاية السياسية لتمرير خطاباتها والتأثير في الجمهور المستهدف من خلال إقامة علاقات معقدة الوجوه والدروب مع وسائل الإعلام. وفي أحوال أخرى، عندما تشتد حدة الصراع سواء بين الدول فيما بينها، أو عندما يكون الصراع بين نظام سياسي وخصومه السياسيين لا تكتفي بعض الأطراف بتلميع صورتها، بل تمتد أنشطتها لتشويه صورة الخصم وشيطنته.
منذ انطلاقتها الأولى، جند النظام السوري كل طاقاته الإعلامية والدعائية لتشويه صورة الثورة السورية لتبرير محاولات سحقها من خلال استخدام القوة المفرطة. ونتيجة لقلة المعرفة لدى الجهات التي تبوأت مواقع الصدارة في الثورة السورية، ظل النظام في السنوات الأولى من عمر الثورة يسرح ويمرح وحيدا في هذا الملعب، بينما كان الثوار يتلقون بعض الصدمات من هنا وهناك دون العثور على تفسير منطقي لها سوى من خلال "نظرية المؤامرة". استمر هذا الوضع إلى أن بدأ بعض السوريين في بلدان المهجر، خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية، بتنظيم أنفسهم وتسخير خبراتهم التي اكتسبوها في تلك البلدان لمجاراة النظام السوري في ميدان الدبلوماسية الموازية.
لم تكن البداية سهلة، فالخوف والحظر الذي عطل إمكانية نشوء حياة سياسية، وبالتالي وعي سياسي، لم يكن مقتصرا على سوريي الداخل، بل لاحق السوريين في شتى أصقاع الأرض، وعن هذا تقول بسمة علوش من خلال ورقة بحثية بعنوان " الجالية السورية في الولايات المتحدة الأميركية: شبكات تضامن رغم التصدّعات السياسية": وممّا زاد في شقاق المغتربين السوريّين أيضا تفشّي ثقافة الخوف من الأمن في سوريا. وقد غرست الثقافة الأمنيّة الخوْفَ وعدمَ الثقة بين سوريي الشتات، والذي أدّى ذلك لاحقاً إلى "نزع الطابعِ السياسيّ عن خطابِ الشتات والحياةِ الاجتماعيّة وجعلَ من النشاط المناهِض للنظام مجازفةً كبيرة.
وعلى هذا النحو، لم يكن هناك سوى أقليّة منخرِطة في أنشطةِ المعارَضة في الخارج، ولم تَكن هناك منظَّماتٌ عامَّة سوريّةٌ عابرة للأوطان للمناصَرة قبل عام 2011.
بعد عام 2011 اختلفت الأمور، ففي الولايات المتحدة التي تركزت فيها معظم الأنشطة التي يمكن أن تدرج تحت مسمى الدبلوماسية الموازية؛ بدأ السوريون تنظيم أنفسهم على أساس آرائهم السياسية، ونشأت الجماعات المؤيدة للنظام، والجماعات الداعمة للثورة. ومع تطوُّر الصراع، قوّت كلا الجماعتَين، الموالية للنظام والمؤيِّدة للمعارضة في الولايات المتحدة، أشكالَ تعبيرها عن التضامن من خلال تنويع مجالات انخراطها. وتمّ الإعرابُ عن التضامن من خلالَ المناصَرة السياسيّة ورفعِ مستوى الوعي والمنظَّمات الطلابيّة. وأصبحت الاحتِجاجات العامّة والمظاهرات وسيلةً شعبية لزيادة الوعي داخلَ الجمهور الأمريكي. ونظمت جماعات مختلِفة مسيراتٍ ومظاهرات ووَقفات احتجاجيّة على ضوء الشموع لإحياء ذكرى الأحداث المختلفة في سوريا، أو للتأثير على سياسة الحكومة الأمريكيّة.
وبرز دور الجالية والمنظمات السورية في الولايات المتحدة بشكل كبير في إصدار "قانون قيصر"، حيث ولد ما يشبّه بـ"لوبي" سوري ضاغط، عمل بفاعلية لإصدار القانون رغم اعتراضه بالكثير من العقبات. وقانون قيصر يعتبره البعض أهم الانتصارات التي حققتها الثورة السورية، وكان ضربة موجعة أتت من جهة غير متوقعة. فقد كان النظام السوري يحقق الانتصار تلو الآخر على صعيد الدبلوماسية الموازية مستغلا غياب المنافس في هذه الساحة التي ظلت خافية على كثير من السوريين لفترات طويلة، لكن الجالية السورية في الولايات المتحدة كسرت احتكاره لهذه المساحة وأدخلته في حالة من الإرباك والتخبط.
لم يكن قانون قيصر الإنجاز الوحيد للجالية السورية في الولايات المتحدة، إلا أن المجال لا يتسع للتعداد، لكن ما يجب التوقف عنده أن الجاليات السورية في أوروبا لم تتمكن من ممارسة تلك الأنشطة رغم مساحة الحرية المشابهة لما هو موجود في الولايات المتحدة، حيث مازال السوريون الذين توافدوا إلى هذه الدول يحملون معهم ثقافتهم التي من عيوبها: عدم المقدرة على العمل الجماعي، والذي هو بدوره نتيجة طبيعية للعيش لسنوات طويلة تحت سلطة نظام مستبد. رغم ذلك، فقد آن الأوان لأن يعلم السوريون أن التفكير بالنصر العسكري أصبح تفكيرا طوباويا حالما، خاصة بعد أن تدخلت روسيا بكل ثقلها العسكري والسياسي لإنقاذ النظام السوري، ولقد آن الأوان أن يتخلى السوريون عن فكرة أنه لا جدوى سوى بالأعمال العسكرية، ولهم بالفلسطينيين أسوة حسنة، فما حصل في حرب غزة الأخيرة أظهر بكل وضوح أن المعادلة انقلبت رأسا على عقب، وبدت الأمور بشكل واضح على عكس المقولة التي روجتها الحكومات العربية لتبرير خذلانها، والتي تقول: إن العالم كله مع إسرائيل، بل إن إسرائيل تتحكم بالعالم وتحكمه.
ما كان واضحا أن النصر لم يكن عسكريا رغم محاولات تصويره بهذا الشكل، بل كان نصرا دعائيا وتعبويا، فالعالم كله مارس الضغط على إسرائيل، وحتى الإدارة الأمريكية التي تكفلت بتعطيل مجلس الأمن ومنعه من إصدار إدانة بحق إسرائيل أرهقها هذا الموقف ودفعتها الضغوط الدولية والداخلية أيضا إلى ممارسة ضغط مضاعف على حكومة “نتنياهو” وصل لحدّ إجبارها على وقف الحرب في توقيت غير مناسب.
يقول المثل العربي: "لا يموت حق وراءه مطالب". ونحن أصحاب حق فلنعمل ونعمل ونعمل كل حسب إمكاناته؛ بدءا من بذل الأموال وتشكيل لوبيات الضغط في بلدان المهجر، وانتهاء بالتشجيع والمناصرة، فإن لم يسقط النظام بهذه الجهود، يكفي ألا نسقط نحن أيضا.
التعليقات (6)