الجندية السورية: تقاليد الذل.. وعُقد التسلط!

الجندية السورية: تقاليد الذل.. وعُقد التسلط!
وفّرتلك سنتين تلاتة من عمرك ما منيح طيب؟. 

هكذا كان يُجيب أبي ضاحكاً كلّما مازحته أو عاتبته: كل رفقاتي عندن إخوة إلا أنا!، كنت في السادسة عشر حين بدأ بلا سبب محدّد يلحّ عليّ هذا السؤال: لماذا أنا وحيد؟، ولم يخطر ببالي أبداً أنّ إجابته كانت دقيقةً وعميقةً أيضاً، فلقد اكتفى -رحمه الله- ببنت وصبيّ وقال لنفسه: من ناحية أربّيهما جيّداً، ومن ناحية أخرى بيخلص هالصبي من "العسكرية"، خطّة مدروسة ومحسوبة. 

إذا قرأ أحد المواطنين الأتراك -مثالاً وليس حصراً- هذا الكلام، فسيشعر بالاستغراب، وسيتساءل بالترجمة الفورية من التركية إلى الإدلبية: ليش أشو في؟ إشبو الجيش، كيف يعني ما تروح عالعسكريي؟، يا عيب الشوم عليك، وإلخ..! 

قبل عامين تقريباً كنت أنتظر صديقاً في أحد المقاهي هنا في "غازي عنتاب"، وكنتُ متوتّراً مشغول البال أنتظر نتيجة قبول ابن أختي في "ماجستير" الهندسة المدنية في جامعة البعث بحمص كي لا "يسحبوه" إلى الجيش، نعم هذا هو التعبير المستخدم في "سوريا" عند اكتمال شروط الالتحاق بالجندية الإلزامية، يسحبون الشباب السوري سحباً، من الذي يُسحب سحباً ويُجرّ جرّاً يا ناس؟ 

جاء صديقي وعلامات الغبطة بادية على وجهه، قال: آسف تأخّرت.. كنت أتفرّج على عرس في كراج "كلّس"، دبك ورقص وطبل وزمر وحلويات وزغاريد وسوالف حلوة. 

- بالكراج؟ ليش إش في؟. 

- أي خاي أي بالكراج، دفعة عساكر أتراك رايحين ع الجيش. 

يحتفل الأتراك احتفالات أُسرية وأخرى اجتماعية جماعية عند حلول مواعيد ذهاب أبنائهم للخدمة العسكرية في الجيش التركي، ويستمرّ ذلك لأيّام عديدة، ويتضامن الأهالي في الحيّ الواحد بتقديم المال والهدايا والورود والتحيّات الحارّة لكلّ شابّ وصل إلى هذه المرحلة فجرى استدعاؤه كي "يتشرّف" بخدمة الوطن، وفي الموعد المحدّد يهرع هَرَعاً كي يلبّي النداء، ويستقبل القادة من الضبّاط الأتراك مجموعات الشباب الوافدة في سيّارات مزيّنة كأنّها في مناسبة زفاف، فيعرّفون عن أنفسهم ويدبكون معهم ويحيّون أهاليهم، ثمّ يستأذنونهم بأخذ أبنائهم إلى المعسكرات والثكنات والمواقع التي تمّ فرزهم إليها، تودّعهم ابتسامات وأدعية الأمّهات وفرح وسرور الآباء وفخر الإخوة والأصدقاء، فلقد مضى "أورهان" و"مصطفى" و"متين" وغيرهم إلى الجيش، وصار بإمكانهم بعد العودة الذهاب إلى خطبة البنات اللواتي يريدون فيستطيعون الإجابة على أوّل سؤال يُطرح على الخاطب في هذه المناسبة وهو: هل خدمت في الجيش يا ابني!

يحتفل الأتراك احتفالات أُسرية وجماعية عند حلول مواعيد ذهاب أبنائهم للخدمة العسكرية في الجيش التركي، ويستمرّ ذلك لأيّام عديدة، ويتضامن الأهالي في الحيّ الواحد بتقديم المال والهدايا والورود والتحيّات الحارّة لكلّ شابّ وصل إلى هذه المرحلة

يعتبر الأتراك الخدمة في الجيش واجباً يمسّ مسألة الشرف والكرامة، ولذلك لا يُعفى منه، بالأحرى لا يريد أيّ شابّ تركي أن تفوته هذه المسألة، ولذلك يخدم أيضاً الشباب المُقعدون وذوو الاحتياجات الخاصّة أو المعاقون في الجيش التركي يوماً واحداً، ويحصلون بعده على شهادة إنهاء الخدمة العسكرية، ويعلّقونها في صالونات منازلهم بكلّ فخر واعتزاز، "لقد شاركنا بأداء الواجب الوطني" . 

 

في سوريا، حلّ أبي هذه المسألة من "المنبع" فتركني وحيداً، أمّا جارنا "أبو مروان" فلقد قضى عمره منذ بلغ أكبر أبنائه السادس عشرة، نفس السنّ الذي كنت فيه أعاتب أبي لماذا أنا وحيد؟، قضاه يفكّر: مروان يدرس جامعة إن شالله وبعدها أسفّره إلى عمّه في الكويت يشتغل ويدفع بدلاً، صفوان الأصغر جحش دراسة هذا ينبغي البدء بتجميع "مبلغ محرز" منذ الآن كي أفرزه إلى حلب أو الجيش الشعبي بإدلب إذا الله رزقنا، نشوان في الصف التاسع بكير هلق خلينا نشوف، كابوس يومي يتكرّر خلال سنوات طِوال مع اقتراب الابن الأكبر من امتحانات "البكالوريا"، ماذا لو رسب؟.

هكذا كانت تسير الأمور، يُشحط الشباب شحطاً إلى مراكز التجمّع، ويمرّ ضابط بلباس مدني مؤلّف من بنطال بنّي عريض وقميص مُشجّر ومشحّر ونظارات شمسية رخيصة قاتمة ومتّسخة، ويصيح في الجموع انتبييييه!. ولك لسه ما صاروا عساكر يا جحش!، لكنّه يبطح الجميع ثمّ يوقفهم ويبدأ في انتقاء الأبطال منهم للخدمة في الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، ويتمتّع هؤلاء "الأبطال" بميزتين رئيستين غالباً وهما: البغلنة البدنية، والعلوية الأهلية، هذه هي مؤهّلات الخدمة في المرافق العسكرية الحسّاسة في جيش النظام السوري العتيد. 

 في سورية يُشحط الشباب شحطاً إلى مراكز التجمّع، ويمرّ ضابط بلباس مدني مؤلّف من بنطال بنّي عريض وقميص مُشجّر ومشحّر ونظارات شمسية رخيصة، ويصيح في الجموع: انتبييييه! ويبطح الجميع ثمّ يوقفهم ويبدأ في انتقاء الأبطال منهم للخدمة في الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، ويتمتّع هؤلاء بميزتين رئيستين غالباً: البغلنة البدنية، والعلوية الأهلية

البقية سيفرزون حسب المال والجاه والاتّجاه!، ومعروفة لدى السوريين عموماً بسبب السرد المتواصل والمعلومات المتناقلة والخبرات الطويلة والتجارب العنيفة التي عايشوها في هذا المجال -مجال الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش السوري البطل- كلّ الأماكن السيّئة والمتوسّطة سوءاً والأقلّ سوءاً لفرز العساكر المجنّدين السوريين الأبطال، ابن الحسكة يعرف تماماً أين اللواء 105 "شيباني"، وابن حمص يعرف أنّ مقرّ الفرقة الأولى يقع في "الكسوة"، وابن السويداء يفهم أنّ "المطار السرّي" يقع قرب الرستن، حتّى أنا "المعفو وحيد" أستطيع أن أحدّد موقع اللواء 42 والفوج 61 والكتيبة 132 في درعا وغيرها، لكن بالمقابل لم يكن يعرف أبناء القرداحة وبيت ياشوط والقطيلبية سوى الخدمة في الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة وأفرع الأمن . 

كانت أمنيات الآباء السوريين الفقراء تصل إلى درجة الرضا حين يعلمون أنّ أبناءهم صاروا حُجّاباً عند قائد الكتيبة مثلاً أو سائقين!

 هذا يعني "التفييش"، أي دفع مبالغ شهرية ثابتة لقاء إجازات شهرية طويلة يعمل فيها المجنّدون ثمّ يعودون إلى قطعاتهم لدفع ما استحقّ عليهم كلّ شهر، فيكسبون المبيت لدى أهاليهم والخلاص من ذلّ الخدمة، لا شيء يُضاهي ذلّ خدمة شابّ سوري مجنّد في صفوف ما يسمى الجيش العربي السوري، جيش تحكمه مجموعات من السفلة والأوباش والرعاع، يقتات قادته على السرقة والتهريب وسوء المعاملة والاستغلال، ويمارس ضبّاطه كلّ أشكال العنف والترويع والترهيب في سبيل المال وشهوات التفوّق وعُقد التسلّط، ويتضوّر أفراده من المجنّدين والمتطوّعين المساكين جوعاً، ويعيشون حياة الذلّ والكدح والحرمان.

لم يوفّر لي أبي سنتين أو ثلاثا من عمري، بل أبعد عنّي الوقوع في هذه المحنة، محنة أن تكون مُجنّداً ذليلاً فيما يسمى الجيش العربي السوري البطل، الذي أرانا وأرى العالم كلّه بعد ثورتنا العظيمة ماذا يعني أن تكون مواطناً في بلد جيشه الصنديد يقوده ويشغّله أبناء الحرام.  

التعليقات (3)

    hope

    ·منذ 3 سنوات شهرين
    ومن منا كسوريين لا يذكر الحقبه السوداء في حياته عندما خدم كلب مسعور لايشبع اسمه زورا ضابط جيش. الجيش العقائدي يصلح له لقب ميليشيا او مافيا. فهو قائم على السرقه و ابتزاز العناصر ويلي ما معه يدفع. بيعتبر انه يقضي حكم بالسجن سنتين و نصف. خطه شيطانيه لكسر نفس الشعب السوري الذي تربى على الاصاله .

    hope 1

    ·منذ 3 سنوات شهرين
    اوجه كلامي للاخوه اللبنانيه , خلال وجود الميليشيات السوريه في لبنان نحن كسوريين كنا بنكتوي بنار العصابه متلكم و اكتر. السرقه والاعتقال القسري يلي وقع عليكم كان اضعاف يلي بسوريا. ولما السوريين طلعو الاسقاط السفاح طلع بعض اللبنانيه وليس الكل لمساعدته وانتم تعرفون السبب. ارحمو من التجا اليكم من السوريين و تعاملو بتعقل معهم لانه ليس لكم ملجا من نوائب الدهر الا شعب سوريا الذي يقاسمكم افراحكم و اتراحكم.

    عبد الله الهاشمي

    ·منذ 3 سنوات شهرين
    خدمة العلم بسوريا هي مضيعة للأصول ، ذل، ونهب ، وتجويع وإفقار لكل العائلة خيرات العساكر ورزق عايءلاتهم كلها للضباط السفلة الذي لا يشبعون ، يمضي الشاب الان خير سنوات عمره عبدا ذليلا مستغلا مضطهدا ليس له اي حق من الحقوق الانسانية لعنه الله على كل الانجاس
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات