الميدان الجديد لهذه التموضعات تنحصر في شمال سوريا عبر تقسيماته الحلبية والمنطقة الكردية. لدرجة أن إيران قررت أن تقبل الظهور بمنظر المُخترق لسيادته الوطنية عبر فتح قواعدها العسكرية لقوات أجنبية. لكن الملفت في الأمر عدم جدية أمريكا في الدفاع عن الإتحاد الديمقراطي في اشتباكات الحسكة. وكانت الأوراق قاب قوسين أو أدنى للخربطة والاختلاط فقط لو أغلقت طائرات التحالف الأجواء في الحسكة، لكن المؤسف أن ما حصل هو حماية لمجموعة من الخبراء الأمريكيين.
تتصدر الدبلوماسية التركية هذه الأيام واجهة المسرح الإقليمي، وانتقلت من دولة استقطبت ملايين السوريين النازحين، إلى شريك في القرار الإقليمي وربما الدولي حول سوريا ومصير الأسد ومستقبل المنطقة برمتها. صحيح أن تركيا أضحت كالأم العطوف لعموم السوريين حتى الملتجئين إلى أوربا فإن غالبيتهم العظمة كانوا مستقرين في تركيا، وعاشت تركيا سنين عصيبة في علاقاتها مع دول الجوار، لكن المسألة الكردية دفعت تركيا وبقوة نحو الالتقاء مع سوريا، إيران، وحتى روسيا نفسها. خاصة وأن التجاور الثلاثي الإيراني السوري التركي ثمة ما يجمعهم حفاظاً على أمنهم القومي –كما يُصرحون- متمثلاً بمنع قيام كيان كوردي في سوريا وربما في العراق وأمور أخرى.
المُضحك في الموضوع الحديث الروسي عن حماية المدنيين في الحسكة وعن وحدة الأراضي السورية، ورفض أي شكل من أشكال الإدارات أو الحكم الذاتي، وكأن القصف العنيف على شمال حلب وادلب وعموم سوريا قد تم بطائرات كوردية وليست روسية.
الشرط الأول لتركيا في أي علاقة سيتمثل في منع قيام كيان كوري في سوريا تحت راية الاتحاد الديمقراطي. صحيح أن تركيا فضلت الهدوء على تجاوز الاتحاد الديمقراطي وبدعم من التحالف الدولي لخطوطها الحمراء, لكن لا سكوت عن رؤية كيان كوردي تحت راية الاتحاد الديمقراطي على طول 800كم.
ما كان لتركيا أن تساهم في دخول الجيش الحر والمعارضة المسلحة إلى جرابلس لولا الضوء الأخضر الأمريكي، وهو ما يُثير استفسارا عن طبيعة التحالف التركي مع إيران وروسيا . ترافق مع ذالك كثُرة الحديث عن إمكانية تقسيم أو فشل التقسيم في سوريا, لكن أي تقسم سيكون بموجب إرادة واتفاق وتسوية دولية, لن تكون تركيا قادرة على منعه, ولن يكون الكرد أصحاب المبادرة أو أصحاب إمكانيات لتفعيل هكذا أمر. على الأغلب أي مشروع سوري قادم ستكون لتركيا الكلمة واليد الطولى فيه. سواء كجار مهم لسويا, أو كدولة محورية في الناتو والمنطقة, أو كدولة بات لها ضوء أخضر للبقاء في سوريا حتى نهاية داعش، وهي النهاية التي ستُنهي المآساة في سوريا.
الواضح جداً أن تركيا لديها استعداد كبير خاصة عَقِبَ الانقلاب الفاشل من تغيير الكثير من قناعاتها، سواء مع الدول الإقليمية أو حتى مع الغرب، وبكل تأكيد ستكون المسألة السورية في رأس القائمة. وبات من الواضح أن ما يهمها عدم تحقيق المشروع الكردي في شمال سوريا الذي يؤسس له حزب الاتحاد الديمقراطي.
زيارات جواد ظريف, مولود جاويش أوغلو، رجب طيب أردوغان، ما بين إيران, وتركيا, وروسيا لن تنتهي دون أتفاق سري ضد أي مشروع فدرالي أو حكم ذاتي في المنطقة, خاصة وأن مشروع الاتحاد الديمقراطي المطروح تحت مسمى فدرالية روج افا – شمال سوريا يعاني من رفض العمق السوري, والمعارضة, والنظام, ودول الجوار, مع أنخراط شرائح وقسم من مكونات المحافظة ضمن المشروع.
المجلس الوطني الكردي من جهته طرح منذ تأسيسه مشروع الفدرالية, لكن ميزة فدرالية المجلس أنه قائم على التشاور والتواصل مع أغلب شرائح وأطراف المجتمع والمعارضة السورية وحتى أطراف مؤثرة في المجتمع الدولي مع أنه لم يرى النور أو الموافقة أو حتى الشرح الكافي حتى الآن. لكن المتفق عليه دوماً، أن حضور الإرادة السياسية الدولية لأي مشروع سيكون من نتائجه التطبيق بغض النظر عن أي شيء أخر. المجلس على الرغم من تيهه وسط الأحداث المتسارعة لكن أستطاع أن يضع الفدرالية على طاولة نقاش المكونات السورية.
وهو عمل غير كافً للمضي في المشروع في ظل عدم وضوح نوعية وحدود هذه الفدرالية, وعدم وضوح الرؤية الدولية على المشروع حتى الآن, لكنها تُعتبر خطوة مقبولة نوعاً ما.
ستزداد نقمة السوريين على الكرد في سوريا فيما لو كانت التوازنات الجديدة في المنطقة ستولد غطائها للإبقاء على النظام في سوريا, في مقابل إبعاد الإتحاد الديمقراطي ترضية لتركيا, خاصة وأن النخب السياسية والفكرية والثقافية والعسكرية تنظر بعين التوجس لشريحة واسعة من الكرد.
حتى هذه اللحظ ليس للإتحاد الديمقراطي أي عمق دولي، ففي كل محطة سياسية للبت في الشأن السوري كان الإتحاد الديمقراطي يجد نفسه وحيداً أو خارج إطار التواجد الدولي. وصول الطائرات الأمريكية إلى أجواء الحسكة زرع نوع من الراحة والسرور لدى قسم كبير من الكرد، لكن الانتكاسة كانت عقب الطلعات الجوية بعد مغادرة الطائرات الأمريكية, وانجلت الحقيقة بوضوح أن الدعم الدولي هو فقط ضمن إطار محاربة داعش لا غير. وبات واضحاً عدم وضوح الموقف الأمريكي من الكرد في سوريا حتى هذه اللحظة, ولم تدعم أي طرف سياسي ضد النظام خاصة في المناطق الكردية.
للأسف فإن الذاكرة الكردية لجهة الخيانات الدولية تجاه القضية الكردية أضحت ذاكرة مثقوبة جداً. فالخيانات الروسية مع الكرد في جمهورية مهاباد, والغدر الدولي بالكرد في اتفاقية الجزائر, وغدر النظام بحزب العمال الكردستاني في نهايات تسعينيات القرن الماضي, لا تزال بادية للعيان دون أي استفادة من دروس التاريخ.
منذ تشكيل أول حزب كوردي لا تزال دعوات النُخب الكردية تتكرر للخروج من مأزق الخلافات الكردية – الكردية. لكن الدول الأكثر عداءً لبعضها البعض استطاعت أن تتغلب حتى على مفاهيم السيادة ورمزية الدولة والاتفاق على حزمة من الأمور على رأسها إجهاض مشروع الاتحاد الديمقراطي وهو ما يؤثر مباشرة على مجمل الوجود الكردي في سوريا.
لكن الملفت في الأمر أن أمريكا لم تقف في وجه طائرات النظام في الحسكة، واصطفت إلى جانب تركيا في قضية شرق الفرات من غربه, وهو ما يُثير إحدى الأسئلة الكردية الجوهرية: هل سيغير الإتحاد الديمقراطي أيضاً من تحالفاته أم لا؟ وهل ستشهد الساحة الكردية بوادر طلاق نهائي، أم ثمة مؤشرات على اتفاقية جديدة جدّية هذه المرة.
التعليقات (7)